الثلاثة الكبار في الفن الحديث هم بيكاسو وكاندنسكي وبول كيلي، ولكن بول كيلي يحتل موقعاً خاصاً بينهم لأنه قام بانجاز نقلة كبيرة في إبداعه جعلته الفنان الأكثر اقتداراً وتجسيداً للحداثة» هكذا يقول هربرت ريد في موجز تاريخ التصوير الحديث، وهكذا يقدم عادل السيوي الفنان المصري ترجمته الجميلة والوفية لكتاب «نظرية التشكيل لبول كيلي» والصادر اخيرا عن دار ميريت بالقاهرة والممتلئ بعشرات اللوحات، والمشاهد التوضيحية والشارحة عبر علاقة وثيقة بين الكلمة والصورة، وفي مقدمته يقول السيوي انه ليس من السهل وضع تجربة بول كيلي الإبداعية داخل تعريف او عنوان واضح، لأنه ظل يراوغ أي قالب او حدود آمنة طيلة عمره، وكان دائم الشك في كل ما قدم اليه كانجاز مكتمل او كاكتشاف طبيعي، ولهذا نجده ينفر من طغيان البعد الذهني للتكعيبية، ويرى ان محاولتها فك الأشياء وإعادة تركيبها يتم على أرضية باردة رغم انه كان هو نفسه مشغولا بصياغة علاقة جديدة بين الأشياء والعلاقات والفراغ، كما نجده يرفض التجريدية الخالصة لأنها نظرة فوقية تنظر من اعلي الى الحياة الملموسة وتترفع على كائنات العالم وأشيائه، ومع ذلك سنجد لديه نزوعا كبيرا للتجريد فهو في الحقيقة تجريدي ـ والكلام مازال للسيوي ـ يرفض التخلي عن شاعرية الحكاية، وهو صوفي حقيقي شرقي الروح الا انه يحتفظ لنفسه بمقعد دائم في قلب التجربة الغربية، مساحة وسيطة ما بين التعبيرية والسريالية، ويقدم أبطال مشهده من منظور منطقي في فراغ العالم الواقعي ثم يتركهم ليسبحوا بحرية داخل فراغ الحلم.
والملمح الهام الذي يرصده السيوي في تجربة كيلي هو الطابع السريالي لإبداعه الذي يتفق فيه مع السرياليين حول قوة التداعيات الحرة وقوة عالم الأحلام وصعود الأشكال من اللاوعي ولكنه لا يتفق معهم في قيمة الاوتاماتيزم، ملمح آخر هو احتفاظه بثوابت كبرى طيلة حياته الإبداعية: أولها هو الإخلاص للحكاية البصرية غير المؤكدة، والوقوف دائما على حافة التشخيص، ورغم العديد من الأعمال التجريدية، وبرغم إصرار المؤرخين على انه قد لعب دورا كبيرا في إضفاء شاعرية خاصة وغنائية دافئة على التجريد الهندسي، يبدو بول كيلي وكأنه يعيد النظر في فهمه لقيمة التجريد ولدوره داخل العمل الفني فلم يقبل ان يجعله تيارا مستقلا من الإبداع وإنما تعامل معه كبعد أساسي هام في علاقتنا بالوجود وعالم الظواهر.

وينقل بول كيلي في كتابه نظرية التشكيل فهمه الخاص للقيمة الفنية وطريقته كفنان في الوصول الى النوعية، وهو بذلك يكون قد وضع القارئ معه في نفس العربة، فالبداية تأتي اولا برفض الخضوع لعالم الكميات، لأنه عالم تحكمه القوانين، والقوانين تولد بدورها أشكالا فنية لان مصيرها قد تحدد قبل تشكيلها، فهي أشكال تترجم القانون فقط ولا تملك خبرة خاصة وهو ما يميز أي حياة ممكنة، من اجل الابتعاد عن منجزات عالم الكميات، رغم قوتها، والانتقال الى عالم النوعية الذي يرى بول كيليانه عالم الأشكال الحية المفتوحة لأنها في حالة تبدل دائم، وتخلق مستمر، ولا تصل أبدا الى سكون نهائي.

وفي اعتقاد المترجم فان كيلي يدعونا بكتابه هذا بعد ان ودعنا عالم الكميات لان نودع عالما آخر، وهو عالم الأشكال وان نسافر معه الى عالم التشكيل، بمعنى انه يريد لنا الوصول الى منطق الخلق، منطق اكتساب الشكل لملامحه وطبيعته الفردية، فخبرة التشكيل أهم من الشكل النهائي، ومنطق الخلق أكثر أهمية من شكل المخلوقات، كما يقدم كيلي خبرته في كشف العلاقات العضوية المفتوحة بلانهاية بين العناصر البعدية والتي تكتسب حياتها من طريقة تشكيلها الخاصة في الزمان والمكان، وتغطي فصول الكتاب قضايا البناء العميق والإيقاع كما يقدم تحليلا لعلاقات الحركة والاتزان داخل المجال البصري ويعرف في النهاية القانون الأساسي للعلاقات اللونية.

البداية في رأي كيلي منطقيا لابد ان تكون من الفوضى، أي من المادة الأولى للكون فهي ابسط الأشياء، وهى بداية كل شيء، النقطة الأولى للبدء، هي المادة التي لم تتشكل بعد، فالفوضى هي حالة غياب نظام او نسف للأشياء كل شئ موجود لكنه يفتقد الى شكل محدد لذلك ترتكز نظرية التشكيل عند كيلي على الطرق التي تقود الى تكون الشكل، الى على الحركة نحو الشكل ويقارن كيلي بين التشخيص والتشكيل، موضحا ان التشخيص يتعامل مع كيانات ترتكز الى وظيفة حيوية، والوظيفة أمر روحي، وقاعدتها الجوهرية هي ان الأشكال الحية لديها احتياج ذاتي للتعبير.
في البداية ماذا كان؟ يقول كيلي: كانت الأشياء تتحرك بحريتها في مسارات لا هي مستقيمة ولا هي منحنية (يجب ان نتخيلها كمفردات مزودة بطاقة داخلية للحركة) يذهب الشئ في أي اتجاه، يذهب اليه بلا إرادة ولا هدف، لكن هل سارت الأمور على هذا النحو حقا؟ لا يمكن إثبات ذلك، حتى كيلي يقول انه محتمل ان يكون الأمر قد سار هكذا فعلا ولكنه في جميع الأحوال شيء قابل للفهم وما هو قابل للفهم يساوي الواقع الحقيقي، وبالتالي فهو قابل للاستخدام ولو كمفهوم في اقل الاحتمالات الى كمعادل ذهني لما وقع بالفعل ولما نتج عنه من التبدل والتطور، الفهم، التحديد، القياس، التصنيف. وهو قابل للاستخدام أيضا لأنه يتشكل في صورة النقيض او فلنقل: بوصفه الجانب الآخر بين الوجود.

في الفصل الثاني من الكتاب يوضح كيلي ان الطريق الى الشكل في حاجة الى تحليل العمل الفني والى فاعلية الخط والى المنظور والى تحديد علاقة الجسم بالفراغ والحركة وتوضيح الاتزان في العمل الفني وتحليل البناء والتكوين والشكل والإيقاع، ذلك ان في علاقة الشكل بالإيقاع مستويات بسيطة وأخرى متوسطة وعلاقات مركبة وداخل ذلك الإطار نجد ان الكيانات البعدية المفردة الأولى في ابسط الكائنات، لأنها مجرد أشكال إيقاعية بطبيعتها عبر التكرار ثم تحتل المنطقة الوسطى في سلم الأهمية الأشكال المركبة، وهى الأشكال التي تتبع إيقاعات أكثر تعقيدا وصولا الى الأشكال المفردة العليا وهى التي تتجاوز تكرارية الإيقاع.

وعموما فوظيفة العمل الفني التشكيلي تتوحد جوهريا مع طريقته الخاصة في التوصيل كما يعتقد بول كيلي، وعلى رأسها توصيل البنية المتحركة للوجود في الزمان الى العيني، وعلى العمل الفني إذن ان يطرح طريقة خاصة للحركة التي يقدمها للعين ولكافة عناصر الإدراك الحسي الواقعة خلف العين، وبهذا نجد أنفسنا وقد رجعنا الى نفس المسألة القديمة مسألة الأثر، ولكننا إذ يجب ان نقتضي الأثر من منطلق آخر وهو الطريقة الخاصة التي يتبناها العمل الفني لتأكيد الطابع الحركي الذاتي في كل عمل فني مفرد علي حدة، وإذا استطعنا تمييز هذه الطرق من أحداث الأثر الفني وفصلها وتصنيفها كل على حدة فإننا ـ والكلام مازال لكيلي ـ نكون بذلك قد صنفنا طرائف وفصائل الأعمال الفنية نفسها فكل عمل بما في ذلك أكثرها تواضعا يتحرك في الزمان سواء كان ذلك متعلقا بالحركة المطلوبة لانجازه او حركة العيني المتأملة له فان عيننا البشرية مصنوعة على نحو يجعلها مجبرة على تكثيف الرؤية بدقة لجزء من المجال البصري، ثم الانتقال الى جزء آخر منه وهذا الانتقال يحدث بالطبع في الزمان.

ويضيف كيلي: ان العين تتحرك بسأم عندما تتأمل ما تعودت عليه من الأشكال، سواء كانت طبيعية أو مصنوعة، ويتوجه الاهتمام بشكل خاص نحو الأشياء الجديدة، وعندما يتمكن العمل الفني من احتواء مثل هذه الطاقة الخاصة الجاذبة للعين، فإن العين سوف تتجه نحو تلك المناطق التي تتوحد فيها أكبر طاقة للجذب، وإلى أعلى طاقة تشخيصية للعمل، وهذه مقولة نسبية بالطبع، فمنطقة الجذب تتحدد وفقا لمقارنات بين العناصر البصرية التي تقع في مجال العين فيمكن ان تجذب العين في البداية مساحة خضراء ولكن عندما توضع معها بقعة حمراء متباينة معها بقوة فان العين ستنجذب بقوة اكبر نحو الأحمر، ويوضح كيلي انه في بعض اللوحات يمكن عند تأمل هذه التفصيلة او تلك المفردة، ان نلمح ما يشبه أشياء الواقع اى ما يشير الى الشكل الأصلي، وأحيانا تكون المسافة ما بين الشكل المرسوم والشكل الأصلي كبيرة جدا وهذا لان التجربة التي خاضها الفنان في التفكيك والإضافة والحذف لا تخضع لمفاهيم مسبقة ولا نستمع الا لشروطها الداخلية وفي الكثير من الأحيان يحدث ان نري أشكالا سهلة التفسير ويمكن ردها الى الواقع ببساطة كورقة شجرة او الزهور او الحيوانات، ورغم ذلك فان العمل الفني دائما يقطع رحلته في اتجاهين اتجاه المنطق واتجاه الحس، العقل والايروس، اتجاه يسعى الى الدقة والإيقاف واتجاه آخر لا يهتم بمسألة الدقة بنفس القدر.

ما السبب في ذلك؟ يقول كيلي ان التداخل ما بين المنطق والحدس هو ما يعطي للعمل قيمته وهو ما يسمح بإعادة بناء الشكل الأصلي مرة ثانية على نحو مختلف.
حسنا، أحيانا تكون المسافة التي تفصل الصورة عن الشكل الأصلي كبيرة الى الدرجة التي يصبح عندها المشهد الفني شيئا متفردا يصعب رده الى أصوله، وسيكون ممكنا أن نلمح شيئا ما من علاقة تربط الصورة بمصدرها في عمل ما، ولكن في عمل آخر سيكون من الصعب تقصي تلك التشابهات وقد لا ندرك أي تشابه له مع الواقع هنا، يقول كيلي انه في العمل الفني لا نكتفي بالمشهد الأصلي، فلدينا شيء آخر له نفس الأهمية هو الأنا والذات فما ينعكس داخل العمل الفني ليس هو المشهد الأصلي فقط وإنما هو مزيج من انصهار هذا الأصل بذات الفنان الأنا الفاعلة التي تصنع المسافة وهى التي تضيف الى ما تشاهد أشياء اكتسبتها من خبرات اخرى وفي أماكن اخرى، فإدخال خبرة مضاعفة الى المشهد قد يتحول الى ما يشبه إجبار جسم غريب على البقاء داخل كيان يلفظه وهذا يحدث عندما تنصهر معطيات المشهد الأصلي مع معطيات "الأنا" المبدعة اى عندما تتفاعل الطبيعة مع ذات الفنان وقد يكون من المجدي إذن الاحتفاظ بخيط ما من الواقع بمعنى الا نقطع تلك الشعرة الأخيرة الباقية والتي تصلنا بالمحتوى فقد ينفعنا الاحتفاظ بتلك الوصلات الواهنة التي تربطنا بالواقع الخارجي وبالمشهد الأصلي .

وحتى في المشاهد التجريدية الخالصة، يوضح كيلي ان هناك دائما ما يمكن ان نلمحه من خيوط تتصل بمشهد واقعي، ولكن الوصول الى تلك العلاقة يحتاج الى نوع خاص من الخبرات.

وفي دراسته الوافية عن الألوان يجيب كيلي على سؤال (ما الذي ينقص ظاهرة قوس قزح؟) بقوله ان العيب الكبير في نموذج قوس قزح اللوني هو محدودية الألوان واختصار التسلسل اللوني والألوان الخالصة هي شيء يخص ألما وراء، ويخص عالما مثاليا مفارقا ولكن الغلاف الجوي الذي يقوم بدور الوسيط من طيب خاطر لينقل لنا الألوان من عالمها المفارق الى عالمنا الأرضي لا ينقل لنا الألوان في تعدادها اللانهائي، وإنما يقدم لنا صورة تقريبية لعناصرها الأساسية، وبما إننا نشتهي المزيد من الألوان فان الرغبة تدفعنا لتصور ألوان اخرى مجهولة ألوان لا يمكن لأعيننا ان تشاهدها لكن هذا لا يقلقنا كثيرا.

ويقدم كيلي في الكتاب مجموعة من الخبرات الضرورية لكيلي من يعمل في مجال الإبداع البصري سواء كان فنانا تشكيليا او معماريا او كان عمله في مجال المسرح او السينما او الفوتوغرافيا والديكور والتصميم الجرافيكي.

ويسوق كيلي العديد من الاعترافات الخلاقة عبر كتابه، فهو يرى أن الفن لايكرر الأشياء التي نراها ولكنه يجعلها مرئية وجوهر الرسم غالبا يقود الي التجريد.
وكلما زاد نقاء العمل التصويري أي كلما ارتفعت داخله درجة الاهتمام بالعناصر الشكلية التي يتأسس عليها التصوير كلما زاد الخلل في عملية التصوير للأشياء كي تتبدي للعين في الواقع.

ويقول كلي: الفن يشبه الخلق، هو دائما مجاز كما هو الأرضي مثال للكوني عملية مستمرة لتحرير العناصر، وإعادة تجميعها في تفريعات تابعة، فك الأعضاء عن الجسد، وتركيبها في نفس الوقت، لبناء جسد آخر متعدد الأجزاء، تنوع الأصوات المشخصة، بوليفونيا، فصل وتجميع، بلوغ السكينة عبر موازنة الحركات ومعادلتها: هذه أسئلة تخص التشكيل ومداخل أساسية للتعرف على الشكل، ولكنها لا تنفذ الى الفن في دوائره العليا، فخلف هذه الدوائر يكمن سر أخير، في هذه الدائرة يخفت ضوء العقل، ويتأكد تهافت الذهن وبؤسه، الرموز تطمئن الى الروح لأنها تقنعها بأنها ليست مرهونة بالاحتمالات الملموسة، والأرضية وحدها، برغم قدرتها على إثرائها، ولأنه حتى الواقع المفارق لايمكن أن يمنحنا البهجة دائما، فالفن يلعب بالأشياء النهائية لعبة بلا معرفة، ولكنه يمسك بها.
...........منقول .........