ماهية الفن ومكانته التربوية :-
في عام 1896 كان تولستوي قد كرس ثلاثين صفحة من كتابه (ماهية الفن)، لمناقشة التعريفات المتباينة للفن، فاستنتج أنها لم تكن صادقة في تحديده. ومع أنه وضع تعريفاً جديداً ينص على : " النشاط الفني يتلخص في أن يستحضر الفرد في ذاته إحساساً كان قد جربه من قبل وبعد أن يستحضره في ذاته يوصله إلى الغير نفس الإحساس " (ريتشاردز، 1971، ص109). إلا أن هذا التعريف مع أهميته يضاف إلى تلك التعريفات التي وصفها هو نفسه باهنا غير صادقة. فالسؤال عن ماهية الفن "من الأسئلة التي حاول كثير من الحكماء الإجابة لم تكن مرضية للجميع (ريد، 1962، ص9).
ولقد تصدى ريتشاردز (Ivor Armstrony Richards) لهذه المشكلة وعزاها إلى اللغة "فالجهاز اللفضي يحول بيننا وبين الأشياء الحقيقية التي تتعامل معها " (ريتشاردز، 1961، ص60) فالنقاد يستخدمون المصطلحات اللغوية فيخلطون بين (الشيء) الموضوعي و(الاثر) الذي يحدثه لدى المتلقي (ولكي نفيد الفائدة الكبرى من الإدراك الثاقب للناقد علينا أن نميز الشيء بملامحه وبين تجربة الناقد التي هي نتيجة كاملة لهذا الشيء. غير أن الغالبية الساحقة للكتابات النقدية تتألف للأسف من أمثلة للخلط بين هذين العنصرين". (ريتشاردز، 1961، ص61). وهذا يوضح هذا الخلط في قولنا " أن اللوحة الفنية جميلة " بدلاًَ من أن نقول " إنها تحدث في نفوسنا تجربة لها قيمتها على أنحاء معينة " فإذا رمزنا للعطى الفني بالرمز (ف) وللأثر الذي يحدثه بالرمز (أ) ولصفة المجال بالرمز (جـ) فإنه يصح أن نقول أن (ف) يحدث (أ جـ) وإذا لم نكن حذرين في تفكيرنا فسنؤمن أننا ندرك (ف جـ) وهنا يكمن اللبس اللغوي. (ريتشاردز، 1961، ص57). ومع أن ريتشاردز لا يصوغ تعريفاً محدداً للفن إلا أنه يدلنا على مواطن الخلل في تعريفة. فإذا عدنا إلى تعريف تولستوي فسنجد أنه يتحدث عن احساسات جــربهــا الفنــان تنتقــل إلــى الآخــريــن فيجــربــونهــا دون إشـــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــارة إلـــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــى ذلـك الشــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــيء الموضوعي الذي لابد منه لنقل الأفكار والأحاسيس من شخص إلى آخر وهو العمل الفني نفسه لذلك يمكن أن نقول أن تولستوي نسي الفن في تعريفه له. ففي تعريف موضوعي للفن ينبغي أن نستبعد الفنان والمتلقي إلى حين لنتفحص الموضوع أو الشكل الذي انتجه الأول بقصد أو بدون قصد التأثير في الثاني. فالفن كما ترى سوزان لانجر (Susanne.K.Langer) " ابداع أشكال قابلة للإدراك الحسي بحيث تكون معبرة عن الوجدان البشري " (Langer: 1953, p. 60) وهي بذلك تتعاطى معه كموضوع يمكن فصله عن الفنان والناقد بالقول (أنه شكل قابل الإدراك الحسي) وهذا الشكل هو " الهيئة التي يتخذها العمل الفني " (ريد، 1962، ص11) وهي شيء تشترك فيه الأعمال الفنية جميعاً. (ريد، 1962، ص10) والعمل الفني يدرك حسياً كشكل و " لا يوجد أي عمل فني حقيقي لا يؤثر في الحواس أساساً " (ريد، 1962، ص9). ولكن ما الذي يميز الشكل الفني عن الأشكال الأخرى؟
يقول نوبلر في تعريفه للفن بأنه " نتاج انسان ينظم فيه المواد بحذق ومهارة لكي يوصل تجربة ما " (نوبلر، 1987، ص44) وهو بذلك يميز الشكل الفني بالتنظيم تلك الميزة التي أكدها ارسطو قديما بقوله " الجميل، سواء أكان كائناً حياً أم شيئاً مكوناً من أجزاء، بالظرورة ينطوي على نظام بين أجزائه"
وهذا التنظيم لابد أن يرتكز على عناصر التوازن والتماثل والتناسب والإيقاع التي يرى أوجدين (Ogden) أنها العناصر الأساسية التي يمكن أن تنظم الخبرة في أنماط ثابتة ومن طبيعتها أنها تتضمن الرشاقة والفاعلية. (ريد، 1975، ص111) ويرى ريد أن الشكل الفني الناجح " هو الذي ينظم تنظيماً وظيفياً على أكمل وجه وهو الذي يجمع بين منتهى الاقتصاد بالمادة المستخدمة وبين الحد الأقصى للقوة البنائية " (ريد، 1962،ص42). والآن لنعد إلى الفنان الذي استبعدناه إل حين تجنبا لخلط المفاهيم _ فهو الذي ينظم الشكل الفني وهذا التنظيم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنمط شخصيته كما أشار أفــلاطــون قــد يمــا إلـى أن الــرشــاقــة وعــدمهــا تجــد فــي التصــويــر والصنــاعــات المماثلــة مكــانــاً لهــا، ويــرتبــط انعـــــــــــــــــــــد ام هـــــــــذه الخصــائـــــص ارتبــاطـــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــاً



وثيقاً بأسلوب رديء أو بشخصية رديئة، بينما يرتبط توافرها بشخصية شجاعة متزنة العقل قادرة على التعبير عن تلك الخصائص. (ريد، 1975، ص176-177) أو بمعنى آخر فإن الفنان ينتج أشكالاً منظمة تنظيماً ذا علاقة وثيقة بتنظيمه النفسي وذلك ما يؤكده ريد بقوله " لا يوجد نمط فني واحد ينبغي أن تخضع له جميع أنماط البشر، بل يوجد من أنماط الفن المختلفة بقدر ما يوجد من أنماط البشر " (ريد، 1962، ص40).
ترى ما الذي يدفع الانسان (الفنان) إلى تنظيم الشكل على النحو الذي تقدم؟
يرى ريد " أن النظام في حد ذاته يثير الخيال، وأن أسمى انواع الخيال هو على وجه التحديد الذي يهتم بإبداع انسجام ونسب مجردة وهذا النوع من التصور يجد سبيله إلى التعبير في الموسيقى والعمارة والتصميم الصناعي وفن التصوير التجريدي … وفي مثل هذه الفنون نجد نقاء وصرامة ونظاماً يتمشى مع جانب واحد من طبيعتنا ألا وهو رغبتنا الواعية في تقليد الكمال البنائي في الكون ومحاكاته محاكاة لا شعورية. غير أننا وهبنا عقلاً لا يمكن أن يقنع بهذا النشاط المحدود … إننا وهبنا إرادة حرة من شأنها أن تجعلنا ندأب على تجنب المعالم الثابتة العادية في قوانين الطبيعة لكي نعبر بدلاً منها عن عالمنا نحن، وهو العالم الذي يعكس مشاعرنا وانفعالاتنا كما يعكس ذلك المركب من الغرائز والأفكار الذي نسميه الشخصية " (ريد، 1962، ص45-46) فالفنان كما يرى ريد إنما ينظم الشكل الفني على غرار الكمال البنائي في الكون أو على غرار تنظيمه النفسي الداخلي وهو في كلا الحالتين يقلد أو يحاكي تلك الأشياء لا شعورياً وكأنه مدفوع (بغريزة المحاكاة) التي يرى أرسطو أنها " طبيعية فينا " (أرسطو، 1953، ص13).