بقلم -باسم توفيق:
يقول الناقد الفرنسي الكبير كلود روشان (إن ما يميز مصوراً عن الآخر هو عينه الذي يرفع من شأن فنان تشكيلي عن غيره من الراسمين وإذا أردنا ان نلخص اهم الميزات التي تجعلنا نميل الى رسم بعينه عن الآخر لن نقول اللون ولا الشكل ولا المقياس وحده بل لعلنا نؤكد أن أهم وشائج الفكرة التشكيلية هي الحركة لأن الحركة بكل بساطة هي علة التكوين والتصوير ومن ثم نواة الفن التشكيلي من هنا تصبح المزية المتفردة لكل فنان هي اعتماده لفكرة الحركة في مشروعه التشكيلي فهي أحياناً أي الحركة تتفوق على كل مقومات الفنان بل وتصبح هي القيمة الكبيرة في عمله الابداعي)
نحن نتفق مع كلام روشان بنسبة 100% على الاطلاق باعتبار ان الحركة هي علة التكوين التشكيلي ولعل لكل عصر نابغة في إبراز الحركة في الكادر التشكيلي يعتبر العصر الذي نشأت فيه الانطباعية هو عصر تفريغ مواهب كثيرة في الاحتفاء بالمخطط الحركي داخل العمل التشكيلي ومنهم فنانا اليوم الشديد الاهتمام بالحركة الفنان الفرنسي أدجار ديجا.
ولقد نشأت فكرة الانطباعية أساساً على فكرة تنطوي على الحركة أساسا فلقد استفاد الجيل الجديد من حركة الضوء وانطباعاته على صفحة البحر بل وأصبحت هذه الحركة هي مسار حركة الفرشاة لديهم.
استهوت الفكرة هذه المجموعة وأخذوا يكرِّسون أعمالهم الفنية للرسم بالنور، أي الاهتمام بالتعبير عن الضوء وانعكاساته في الطبيعة، متأثرين بأضواء البحر وبألوان قوس قزح الزاهية، ومن هنا سماهم البعض "التأثيريُّون".
إلا أنّ أحد النقاد المتحيزين للمدرسة الواقعية التي كانت ما تزال هي المذهب السائد فنيًّا لم يعجبه الأسلوب الجديد لهؤلاء الشباب، فقال ساخرًا إنهم انطباعيون، يعني ينطلقون في أعمالهم من التأثير المباشر بالانطباع الأول الذي يأخذونه من ألوان الطبيعة، مثل: قوس قزح وأضواء النجوم وتلألؤ مياه البحر.
وأراد هؤلاء الشباب أن يثبتوا "علمية" مذهبهم الجديد في الفن، ويردوا بشكل عملي على النقاد من أنصار الواقعية التي كانت تُعلي من شأن موضوع اللوحة على ما عداه من ألوان وأضواء… فقام الانطباعيون بوضع معالم محددة لمذهبهم الفني ارتكزت على فكرية تحليل الضوء لألوانه الأصلية (ألوان قوس قزح)، وبدلاً من خلط هذه الألوان معًا على سطح اللوحة راحوا يضعون كل لون منفصل بجوار الآخر في صورة لمسات صغيرة بالفرشاة، وأدى هذا إلى ظهور العنصر الثاني (غير زهو الألوان وعدم خلطها) المميز لأعمال الانطباعيين، وهو ظهور لمسات الفرشاة وآثارها على سطح اللوحة، فيما يعرف بالملمس الذي يصنع تضاريس بارزةً للوحة، وأصبحت اللوحة عند الانطباعيين في ذاتها مهمة، وكلا متكاملا كفكرة وألوان وأضواء، بدلاً من تركيز الواقعية على الفكرة فقط.
ويحتل إدجار ديجا Degas مكاناً غريباً وسط جماعة الانطباعيين، فهو في وجه هؤلاء الثوريين كان يزعم أنه رجعي ولا سبيل لإصلاحه، كما كان يسخر من نظرياتهم عن اللون، ويزعم أنه - مثل آنجر (زعيم الكلاسيكية في فرنسا) - لا يهتمّ إلا بالرسم والتكوين، ولا يميل إلى المناظر الطبيعية؛ ولكنه أثبت في أواخر حياته أنه أنبغ الفنانين في استعمال الألوان، فقد كان في بداية حياته يستخدم الألوان الزيتية، مضافاً إليها كمية كبيرة من زيت النفط، ما يجعلها أقرب إلى الألوان المائية، ولكنه ابتدع أسلوباً جديداً يستخدم فيه الألوان الزيتية والجواش والباستيل معًا - يقوم على لمسات سريعة متكسرة، يزحف بعضها على بعض، فيكسب لوحاته وميضًا رائعاً.
وينتمي ديجا كرسام فرنسي للمدرسة الانطباعية. أراد كغيره من الرسامين الانطباعيين أن يصور مشاهد من الحياة العصرية، ولكنه لم يشاطر زملاءه الانطباعيين الحماس في التركيز على الضوء واللون، بل كان تركيزه على التكوين والرسم والشكل أكثر من غيره من انطباعيي الحركة.
اشتهر دَيْجا برسم الناس في كل لحظات حياتهم العامة والخاصة، إذ كان يصور أشخاصه في أوضاع حرجة، فيها خصوصية، ليحرر نفسه مما كان يخامره من إحساس قوي بأن الأساليب السائدة لرسم الأشكال البشرية عتيقة بالية. ولكن مع ذلك كان ديجا يحرص دائماً على تشكيل لوحاته بحذر شديد ليحقق نوعاً من التوازن المنهجي.
ولد هيلير جيرمين ادجار ديجا بباريس لأبوين ميسورين. قضى زمنًا طويلاً من الفترة ما بين 1854م و1859م، في إيطاليا، ليدرس أعمال كبار فناني عصر النهضة الإيطاليين، وذلك ليصقل مهاراته الفنية وأسلوبه في الرسم. أراد ديجا أن يتخصص في رسم المشاهد التاريخية، غير أنه تخلى عن متابعة ذلك التخصص لأنه شعر بالحاجة لرسم أشكال حديثة. ولعله، نتيجة لتأثُّره برسامين مثل: جوستاف كوربيه، وإدوارد مانيه، أخذ ديجا يرسم مشاهد من الحياة اليومية. وكان يجد ـ على وجه الخصوص ـ متعة في رسم مشاهد من حلبات السباق والمسارح.
بدأ ديجا خلال السبعينيات من القرن التاسع عشر الميلادي يستخدم أساليب إنشائية تتسم بالجرأة في التعبير، متأثراً في ذلك جزئياً بالرسوم اليابانية، فأخذ يضع أشخاصه في زوايا غير مألوفة، ويرسمهم من زوايا شاذة. فعلى سبيل المثال، كان يجعل منظوره مائلاً ليؤكد حركة مفاجئة أو حركة فيها خصوصية. بل كان يقتطع بعضًا من أطراف موضوعاته في طرف اللوحة. وفي الثمانينيات من القرن التاسع عشر الميلادي، أخذ ديجا يركز على المشاهد الحميمة، كأن يرسم امرأة تتسوق أو تجفف شعرها، أو تخلله بالمشط.
استخدم ديجا ألوان الزيت في كثير من رسوماته، ولكنه برع أيضاً في استعمال ألوان البَاسْتيل (عجينة تُستعمل في صنع الأقلام الملونة). إلى جانب هذا، كان ديجا نحاتاً بارعاً، نحت كثيرًا من التماثيل الصغيرة من الطين أو الشمع.
كما أنتج ديجا العديد من المخططات للعروض المسرحية والكتب لكن يعتبر أيضاً مصير ديجا مثل معظم مصير معاصريه حيث مات فقيرا وبيعت معظم اعماله بثمن بخس لكن بعد ذلك اصبحت من أقيم وأقوى الاعمال التي تؤرخ لتاريخ الحركة الانطباعية والفن التشكيلي عامة