الكتابة للطفل فضاء مفتوح .. لكن!!



١٨ أيار (مايو) ٢٠١٠بقلم بشير خلف

تعد الكتابة للطفل من أعسر المهمات الإبداعية بالنظر إلى عالم الطفل المخصوص، وما ينطوي عليه من خيال واسع تستدعي الدقّة والتحرّي،وسنورد في الصفحات الموالية اعترافات عديدة لكتاب وأدباء لهم مكانتهم أدلوا بها، مؤكّدين عجزهم عن الكتابة للطفل..وهذا لا ينفي أن هناك بالمقابل من يجد المتعة والحميمية عندما يلج هذا الفضاء الإبداعي في ثقافة الطفل إبداعا وبحثا ونقْدا.
إن الكتابة للطفل تطرح أسئلتها باعتداد وبإلحاح، من قبيل الجدّ والتدليل على أن الكتابات الموجّهة للطفل مطلوب منها التخصّص، وعدم الاستخفاف، والتبسيط، والسذاجة، والاستبلاه وسدّ الفراغ، أو من باب التسلية. فعالم الطفل فضاء من الخصائص والسمات، والشروط لا تُفتح أبوابه لكلّ من رغب في ذلك ؛أي بمعنى آخر، الكتابة للطفل لها شروطها وقواعدها التي تراعي خصائص النموّ ومراحل هذا النمو في كل مرحلة من مراحل الطفولة..هذه المراحل التي تراعي نموّ الطفل النفسي والذهني والعاطفي، والمستوى التحصيلي المعرفي، ومستوى مهارات اكتساب المعرفة كالقراءة والكتابة لديه، ومختلف تفاعلات علاقاته بالأشياء، وبالعالم المحيط القريب والبعيد.
وأمر الكتابة الموجّهة للطفل يطرح أيضا مجموعة من التساؤلات المشروعة والمبرّرة…منها:
ـ أهناك ثقافة للطفل وأخرى لغيره ممن هم أكبر منه ؟
ـ ما المقصود بأدب الطفل ؟
ـ ما هي دلالات كلمة أدب..هل نعني به المكتوب لوحده، أم يدخل ضمنه المرئي والمسموع والأدب المصوّر ؟
ـ من هو الطفل الذي نروم الكتابة إليه ؟
ـ هل هناك ثقافة للأطفال في الجزائر حاليا..؟
ـ وهل هناك تخطيط تثقيفي مبرمج وفق أسس علمية ووفق مراحل وآماد زمنية معروفة..تخطيط يكوّن الطفل الجزائري من جهة، ويدعّم جهود المؤسسة التربوية التعليمية ؟
ـ ما يُقدم للطفل الجزائري من تثقيف، وما يُكتب له؛ هل يستجيب لمختلف التبدّلات والتحوّلات الداخلية والخارجية، وتأثيراتهما على المجتمع عامة وعلى الطفل خاصة ؟
الكتابة للطفل مسؤولية مَـنْ ؟

لمَـنْ تعود مسؤولية ثقافة الطفل والكتابة فيها ؟ إنها تعود بالدرجة الأولى إلى المهتمّ بهذا النوع من الثقافة والتثقيف؟ أم أنها ترجع إلى مختلف الهياكل ومنفذي البرامج المختلفة الخاصة بالطفل من رياض الأطفال ومؤسسة تعليمية وأسرة، ومؤسسات مجتمعية أخرى تهتمّ بذلك، وناشرين، وأصحاب القرار، ومنجزي البرامج؟ أم أنها تعود لوزارة الثقافة من خلال مديرياتها المركزية المتخصصة، ومديرياتها الولائية، ودُور الثقافة، ومراكزها ؟
هي أسئلة بقدْر ما هي حقيقية ونُـعايش وقائعها المؤسفة، فإنها مزعجة لأنها تشير إلى واقع لم يتغير وطال..تغيّر الأشخاص والمسؤولين عشرات المرّات ودار لقمان على حالها..هي أسئلة مشروعة ترمي إلى النهوض بواقع تثقيف الطفل الجزائري، وتفعيل كتابة صادقة تروم رفْعَ مستواه الفكري والخلقي والجمالي..أسئلة مزعجة لأنها تعرّي وزارة عجزت منذ أربعين سنة ونيْف عن إنشاء مديرية خاصة بثقافة الطفل، ولم تتمكّن من إصدار مجلّة للأطفال..مكتباتنا وأكشاكنا في المدن الساحلية الكبرى غزتها وسائل التثقيف باللغة الفرنسية..ومجلات الأطفال باللغة العربية هناك تعمّدٌ خبيث في عدم استيرادها..مجلة العربي الصغير وحدها أحيانا تتواجد في السوق وبأعداد قليلة، ولا تصل كل مناطق الوطن..وفي الجزائر العميقة تصل أعداد منها محدودة تنفذ في الحال..وفي المدن الساحلية الكبرى تُركن بعيدا حتى لا تُلفت نظر الزبون الصغير أو الكبير..مغضوب عليها، وصْمتُها أنها كُتبت بالحرف العربي.
هل عرفنا الأطفال.. حتى نكتب لهم أو عنهم ؟

الطفل يأبى القيود وينفر من السلطة والتسلّط.. زمنه زمن الحرية..فضاؤه غير منتهي..خياله جموح..الفضول سمته والاكتشاف الدائم حرقته..هو ابن السؤال الذي لا يتوقّف..يخلق عوالمه الخاصة به دوما..حتى وإنْ ألجمناه كعادتنا، ما يفتأ يخلق عوالمه.
الطفل ابن السؤال، والثقافة العربية أميل إلى الخوف من السؤال، وتدخل في طور من الارتياب منه عندما يطرحه طفل، فهي تنكر على الطفل حقّه الطبيعي في الحلم وفي خلْق عوالمه الخاصة به، وتتعامل معه بصفته ذاتا قاصرة لا يحق لها الحلم، ولا يجوز لها التفكير وطرح السؤال..فطرح السؤال عفْرتة، وشيْطنة، وقلة أدب..هو تحدّ للكبار وتجاوز للحدود..إنها ثقافة مجتمعات تخاف على أطفالها من تبعات طرْح الأسئلة، ولا سيّما الإناث. الطفل ابن الحرية والحرية سؤال واعٍ ومسؤولية وثقافتنا تجنح إلى الخوف من الحرية. [1]
بتشاؤمية كبيرة هناك مَنْ يرى بأن الثقافة العربية لم تنتج إلى اليوم ثقافة للطفل عربية يُعتدّ بها، لا لفقرٍ في الإرث الثقافي والمصادر الضرورية لنشوء هذه الثقافة بما في ذلك أدب الطفل، ولا لعجز في المخيلة؛ فالعرب يتمتعون بمخيالٍ خصْبٍ، ولا لقصور في اللغة وضيق في رحابتها، ولا لغياب الوعي بأهمية الابتكار، وأهمية الخلْق الفني؛ وإنما لأسباب أخرى قد يكون أهمّها إطلاق ضُعْف التواصل بين الأجيال، وهشاشة العلاقة بين الكبار والصغار، بل وتصادمها المستمر زمكانيا، والجهل الفضيع بعالم الطفولة، والتجاهل حتى ممّن بإمكانهم معرفتها والغوْص في أعماقها وسبْر فضائها الحر الذي ينفر من القيود والتسلّط والوصاية..انطلاقا من مجتمع أبوي مثالي صارم يريد أن يلقن يقينه ومثالياته الخاصة لطفل أكثر أيام حياته في زمن آتٍ غير زمن الكبار الذين فرضوا وصايتهم عليه.
يريدون فرْض تصوّراتهم على الطفل من دون كبير احترام لاستعداداته الخاصة، وإرادته، وملكاته الإبداعية.المسألة بدءًا ليست فيما نكتب للأطفال أو نكتب عنهم، وليست أيضا تثقيفية أو أدبية أو جمالية بقدْر ما هي اجتماعية فكرية انعكست على المفاهيم الجمالية والأهداف القصْدية.
من أهداف الثقافة التوعية وتحرير العقل من كل القيود كيفما كان نوعها، والعمل على جعْل هذا العقل الحر والمتحرّر مبدعا، مبتكرا..الثقافة العربية لم تنجح حتى الآن في تحقيق هذا الهدف وفشلت في رفْع يد الأبوة الثقيلة عن الإنسان العربي صغيرا وكبيرا..خطاب الأب الحاكم، أحادي الصوت، كلّي القدرة، العارف بكل شيء، راعي الرعية، حامي القيم والأوطان والمثل والقيم، وحارس الحدود والثغور، وواهب العطايا والمكرمات، الصانع والمشكّل للبيادق الدائرة في فلكه. [2]
ليس عجبا لصاحب مثل هذه الصورة في الذاكرة العربية بهالتها المقدّسة أن تحتلّ صورته النموذج المثالي في الكتابة الموجّهة للطفل، من قِــبَل كُتّاب عن حُسْن نية أو جهْل أ وتجاهل بالتغيرات، فنقلوا هذه الصورة ورسّخوها في ذهن الطفل العربي، واستعادوا أعلام التراث البطولي العربي والإسلامي ليُسْقطوها على الواقع الحديث، من خلال تركيب الصور القديمة داخل هالات جديدة..وغاب عنهم أن الطفل في أكثر من مكان من العالم العربي كان أذكى منهم فتجاوزهم، متخذا مناحي أخرى في إشباع حاجاته المعرفية والتثقيفية، ولو كانت مناحي عرجاء..يستقيها من دور الشباب والمراكز الثقافية، ومن قاعات الإنترنيت التجارية، ومن قاعات الألعاب الإلكترونية، ومن الحيّ والشارع بخاصّة وغيرها.
بالمقابل هناك من يرى بأن ثقافة الطفل وتثقيفه موغلة في التاريخ الإنساني، ففي تراث البشرية الهائل ما يلفت نظر الباحث والدارس. لقد حرص أتباع جميع الديانات الوثنية منها والسماوية، والمحرّفة منها والصحيحة، على أن تقدم للطفل لونا ما من ألوان الأدب يعبر عن الدين أو العقيدة…
حدث ذلك في العصور السحيقة..
وحدث ذلك في اليهودية والنصرانية والإسلام..
ويكاد يُجمع المؤرخون على أن أدب الطفل يوجد حيث توجد الطفولة، وهو جزء لا يتجزّأ عن باقي احتياجاتها المادية والنفسية والروحية، فكما يحتاج الطفل إلى الطعام والشراب، وإلى الرعاية والحنان، فإنه في حاجة ماسّة إلى ما يُثري فكره، ويُسْعد روحه ووجدانه. وإذا لم يستوف الطفل تلك الاحتياجات المادية والمعنوية، فسوف يكون عرضة للمعاناة والاضطراب؛ لأنها جزْءٌ من فطرته، وقد كانت الأم من قديم الزمان تدرك احتياجات طفلها بالفطرة، فتقدم له ما يرفّه عنه، ويثري خبرته، ويتواءم مع طبيعته.
بل إن بداية عهد أدب الأطفال الحديث افتتح صفحاته الأولى بقصص الأنبياء، والقصص التي وردت في الكتب المقدّسة..ومعلوم أن العقيدة هي الأساس لبناء الكيان الروحي والفكري للطفل، ومن ثمّة لا بدّ وأن تبدأ في وقت مبكّر، ولو على سبيل التلقين والتبسيط، أو التعبير بالصور المعبّرة التي ترمز إلى شيء غير مرئي.هناك من يرى بأن كل أساليب التربية والتكوين ومصادر المعرفة ووسائطها المختلفة والتي توسّعت في أيامنا هذه كلها تدخل تحت عنوان " أدب الطفل " وهناك من يؤكد على أن أدب الطفل ما هو إلاّ عنصر أساسي في ثقافة الطفل وهذا رأينا الذي ندعو إليه .
يبدأ تثقيف الطفل وهو لم يُولد بعد..يبدأ بتثقيف أمه وأبيه، فليس الأب هو الذي ينمو جسديا ويصير قادرا على العمل والزواج والإنجاب وحسب. الأب الحقيقي مَنْ درس معنى الأبوة وعرف الطفولة وخصائصها، وعرف كيف يحسن تنشئة وتثقيف وتعليم ابنه، وما ينطبق على الأب ينطبق على الأم..في التربية الحديثة وفلسفة التنشئة من العلماء من يطالب الآباء والأمهات بأن يحكوا ويحكين للأطفال قصصا، وأن يُسْمعوهم موسيقى خفيفة، وأن يحدثوهم بحنّية وهم في بطون أمهاتهم تمهيدا ليوم الميلاد، وإطلاق الصرخة الأولى التي نردّ عليها بالآذان في أذن الوليد كي ننبه حواسه ومشاعره ومن ثمة نتابع معه فيما بعد التثقيف والتعليم من خلال المداعبة والحركة والصور والألوان.