المصدر:جريدة الرياض


أحياء وشوارع الرياض القديمة.. التاريخ وثّق الأسماء ل «جيل الألفية»!


جانب من توسعة شارع الشميسي عام 1379هـ حيث اختفت معالم سور المدينة نهائياً
الرياض - منصور العساف
يقطع الراكب في مدينة الرياض مسيرته بين أحياء كانت بالأمس مدناً متناثرة تحيط بها الأبراج والأسوار وتتوسطها النخيل والأشجار، ولكل حي منها بستان يعرف باسم أهله، كما أن لكل مدينة سوراً يحيط بها ويعزلها عن باقي المدن المجاورة التي تختلف مسمياتها باختلاف سنوات بنائها، وتسلسل أحداثها، ف"مقرن ومعكال ومنفوحة والمصانع" - وغيرها كثير- ما هي إلاّ مدن صغيرة اندمجت وسط الأفق الواسع للعاصمة التي حفظت الأجيال الحديثة أسماء أحيائها دون معرفة أسباب هذه المسميات التي تعود إلى أكثر من أربعة أو خمسة قرون، كما أن البعض الآخر منها يعود إلى عصر صدر الإسلام، بل إن منها ما يعود إلى العصر الجاهلي ك"منفوحة والخضرمة والمصانع".
لماذا سميت «خنشليلة»، منفوحة، «الحبونية»، «طويلعة»، «سكيرينة»، «مقيبرة»، الفوارة، الصالحية، المصانع، مصدة، ثليم، العجيلية، «شلقاء»؟

حي "خنشليلة"
ما أن تقطع بمركبتك أحياء جنوب مدينة الرياض، إلاّ وتقف عند أكثر الأحياء جدلاً عند المؤرخين المعنيين بتاريخ المدينة، حيث يستقبلك حي "خنشليلة" الذي تم تغيير مسماه -من قبل أمانة منطقة الرياض- إلى المنصورة، دون أي اعتبار لمعطيات التاريخ التي تفيد أن مسمى هذه المكان يعود إلى أكثر من خمسة قرون؛ نسبة لامرأة كريمة تسمى "جليلة" ويكاد يجمع المؤرخون أنها ابنة الوجيه "عبد المحسن بن سعيد الدرعي الحنفي" -ممدوح الشاعر الكبير جعيثن اليزيدي الحنفي- الذي جرى بينه وبين جد الأسرة السعودية مانع المريدي مراسلات؛ لكونهما أبناء عمومة من بني حنيفة.
وكانت "جليلة" قد أعدت وقفاً أو نزلاً للحجاج القادمين من المشرق، وابتغت بذلك وجه الله سبحانه، وقد أطلق عليه حجاج المشرق العربي "فندق جليلة"، وكانت العرب تسمي النزل فندقاً، والكلمة عربية استخدمتها قضاعة منذ القدم، كما استخدمتها روايات العصر العباسي بكثرة، وقد نقل أن أبي فرج الأصفهاني صاحب "الأغاني" نزل ذات يوم فندقاً بالبصرة وكتب قصيدة على أحد جدرانه، كما أن مسمى "خان" وهو مصطلح منغولي الأصل ويعنى المكان أو النزل كان منتشراً، ولا يزال في بلاد السند وفارس، ولذا فقد أطلق على "فندق جليلة" اسم "خان جليلة" لكونه يستقبل حجاج المشرق الذين عرفوه كاستراحة ومحطة التقاء لهم ولذويهم ليتحول الاسم فيما بعد إلى "خان شليلة".
والمتتبع لطريق الحاج يلحظ أسماء ومصطلحات لبعض المواقع والمدن تختلف عن مسمياتها الأصلية، ولا أدل على ذلك إلاّ ما ذكر "خالد السليمان" في كتابه "معجم مدينة الرياض" أن هنالك سوق قديم وسط مدينة الرياض أطلق عليه سوق "الخان"، إلاّ أن مبانيه اختفت واندثرت معالمه وسط حي وسوق الثميري زمن الإمام عبدالرحمن الفيصل الذي سكن فيه.

منفوحة وشارع الأعشى
وغير بعيد عن "خان شليلة" ستتجه غرباً إلى منفوحة التي عرفت منذ الجاهلية بأنها مساكن قبيلة بني قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل، وفيها ولد الشاعر الجاهلي الشهير وصناجة العرب "الأعشى" صاحب المعلقة الشهيرة:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعاً أيه الرجل
وقد ذكر الأعشى منفوحة في عدة قصائد له كقوله:
شاقتك من قتلة أطلالها
بالشط فالوتر إلى حاجرِ
فركن مهراسٍ إلى ماردٍ
فقاع منفوحة ذي الحائرِ
ولا زال الشارع المسمى باسم "الأعشى" يقطع حي منفوحة من الشرق إلى الغرب، كما أن من مشاهير منفوحة الأديب والشاعر والراوية أبو رياش أحمد بن إبراهيم القيس الذي توفي عام 339 أبان خلافة بني العباس زمن آل أخيضر في نجد، وقد ترجم له ياقوت الحموي في إرشاد الأريب، كما ذكر ذلك خالد السليمان في معجمه.

الحبونية وطويلعة
وسكيرينة ومقيبرة
وما أن تتجه شمال منفوحة ناحية الشرق إلاّ وتقف على أحياء "كالحبونية" "وطويلعة" "وسكيرينة"، والأولى ذكرها ابن بشر في حوادث 1162م، كما أن ياقوت الحموي وهو من علماء القرن السادس والسابع الهجري، قد ذكر في كتابه الشهير معجم البلدان أن حبونن في بلاد جحر وربما قصد الحبونية بعينها أو لعل اسمها تغير مع الزمن، وكذا كانت سكيرينة نخلاً لابن جرجير، أما "مقيبرة" فقد كانت مقبرة محدودة المساحة ولتصغير مسماها أطلق عليها "مقيبرة" وقد نقلت رفاة مقابرها إلى العود وأحيطت بعدة أسواق، كما سميت غبيرة "غبيراء" نسبة إلى بني غبر، وقد انتقلت ملكيتها إلى آل طياش، وقال الشاعر محمد المطيري:
ويحسب الناس من أهل البديع
وأهل السلمية الغبراء ومعكانا

الفواره والصالحية والمصانع
أما حي الفواره وهو جزء من حي الفاخرية الحالي، فقد عاد بمسماه إلى زمن الرسول الكريم محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وذلك حينما وهبه إلى الصحابي الجليل مجاعة بن مرارة الحنفي، إلاّ أن اسمها حين ذاك كان "الفورة"، ذكره ياقوت في معجمه، وقال الحفصي: الفورة بالضم روض ونخل.
أما "الصالحية" فسميت باسم الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ قاضي الرياض، وهي تختلف عن حي الصالحية وسط الرياض التي تنسب أيضاً لاسم رجل، فالأولى تقع غرب عليشة وتسمى الآن الحزام، ولأن الأحياء والمدن كغيرها تعرف بمسمياتها؛ فإن لكل اسم مناسبة ولذا سمي حي المصانع جنوب مدينة الرياض نسبة لمصانع الحديد التي كانت تزدهر في حجر اليمامة والتي وصفها ابن منظور – وهو من علماء القرن الثامن الهجري – بقوله: حدائد حجر فائقة الجودة، وكانت هذه المصانع منذ العصر الجاهلي، ولم تدخل قرية المصانع "آنذاك" في الصلح مع خالد بن الوليد رضي الله عنه، كما قال ياقوت، ولا أدل على قدمها إلا قول الشاعر السعدي:
ما ذكره سلمى وقد حال دونها
مصانع حجر دورة ومجادلة

مصدة وثليم والعجيلية و"شلقاء"
كما أخذ اسم حي "مصدة" من الصد والصدود، أما حي ثليم فقد رجح الباحث والمؤرخ خالد السليمان أنه هو المسمى في التاريخ "الثلماء" واستشهد بقول الشاعر يحيى بن حفصة:
حيوا المنازل قد تقادم عهدها
بين المراح إلى نقا ثلمائها

ويقال: إن المقصود به تصغير ثلم وهو فتحة في الحاجز الترابي لتصريف المياه ، أما حي العجيلية فيقول الشيخ إبراهيم بن عثمان: إنها تنسب في الأصل إلى بني عجل بن لجيم الذين جاوروا بني حنيفة في سكنى حجر، وقال السليمان أن حي "شلقاء" إنما أخذ من جلقاء اسم مدينة دمشق القديم كما يطلق عليها جلق - وهي أقدم عاصمة بالتاريخ ولازالت - وكان أهالي الرياض يقولون: "من راح شلقا معد يلقي" كناية عن بعدها بينما تقع الآن وسط الرياض هي وحي أم سليم الذي نسب إلى شجر السلم.

تسمية الملقى
أما حي الملقى، وهو من الأحياء الحديثة شمال مدينة الرياض فيعتقد الكثير أن تسميته جاءت على مدينة ملقى الاندلسية ضمن منظومة الأحياء الجديدة التي أشرفت أمانة منطقة الرياض على تسميتها بأسماء المدن الإسلامية في الأندلس، كحي الحمراء واشبيلية وقرطبة وغرناطة، ولكن التاريخ يثبت أن الملقى من اللقاء، والأصل أن يكتب بالألف المقصورة لأنه سمي بهذا الاسم - منذ عدة عقود - لكونه ملتقى وادي حنيفة مع وادي العمارية ووادي القرى التي كانت تسمى قرى ابن عبيد والتي ولد فيها العلامة عبدالله بن خميس - رحمه الله - كما ذكر في معجمه.
أسواق بأسماء أصحابها
أما الأسواق فنسب سوق أشيقر إلى رواده وأصحابه من أهالي أوشيقر بالوشم، وكذلك حراج الكويتية وحلة القصمان وسوق ابن دايل، وشارع السويلم وشارع الريس، أما عتيقة فنسبت إلى أسرة قديمة من أل عتيق كما ذكر السليمان في معجمه.
ويبقى حي السبالة اسم على مسمى، فقد اشتق من الوقف والسبيل الذي يضعه الخيرون وقفاً وسبيلاً لله، ونسب شارع وسوق العطايف إلى آل عطيفة من بقية آل أخيضر أشراف اليمامة الذين حكموا في نجد، وقد ذكر المؤرخ محمد بن جرير الطبري في حوادث أواخر القرن الثالث الهجري لمحة عن وصول آل أخيضر إلى نجد بعد أحداث جرت لهم بالحجاز.
ولأن معظم المحال كانت تنسب لأصحابها، فقد حملت معظم أسواق الرياض القديمة أسماء أشهر الباعة وأولهم حضوراً كقيصرية بن كليب، والثميري، وابن دايل، وحراج ابن قاسم، وسوق الوزير نسبة إلى الوزير عبدا لله السليمان.

سوق الرخوم!
أما سوق الرخوم في حي الشميسي والذي تأسس قبل نحو خمسين عاماً، فقد كان له قصة طريفة وهي أن ثوراً هاج أمام "سوق البقر" ولم يستطع أحد الوقوف أمامه، بل هرب معظم من في السوق خوفاً من بطش هذا الثور الهائج الذي وقف بشموخ وكبرياء وحيداً أمام الأبقار، ولسان حاله يقول:
لما رأيت القوم أقبل جمعهم
يتذامرون كررت غير مذممِ
ما راعني إلا حمولة أهلها
وسط الديار تسف حب الخمخمِ
فيها اثنتان وأربعون حلوبةً
سوداً كخافية الغراب الأسحمِ

أسماء العيارين
لم تسلم أحياء وشوارع وأسواق الرياض من قصص وحكاوي العيارين الذين ينتشرون في أسواق وأزقة الرياض ليبدعوا في الأسماء والمسميات الطريفة التي تخفف عنهم رتابة العمل اليومي، ووطأة الغربة والتغرب، لاسيما ممن وفد إلى العاصمة للبحث عن مصدر رزق أو وظيفة يلتحق بها، وكان شارع "جبر الخواطر" في حي دخنة إحدى "تقليعات" أبناء ذلك الزمان، فالشارع الضيق الذي لا ينفذ إلى طريق خدمي أو ميدان رئيس تحوّل بعشية وضحاها -ربما لأجل ساكنيه- إلى شارع واسع تحيط به أشجار الزينة والنخيل الباسقة، ويزدان بالأرصفة الواسعة واللوحات الإرشادية.
أما شارع "بور سعيد" فقد عرف بين العامة بهذا الاسم إبان حرب أكتوبر 1973م، أما حي الكومة فقد كان أية في الطرافة إذ لا يكاد المار في هذا الشارع أن يسلم من كومة بالنسيم الأطفال الذين لا تزيد أعمارهم على العشر سنوات، ونظراً لكثرتهم فإن السيارات مضطرة أن "تمشي الهوينى" في هذا الحي وفي حال سلمت السيارة من عبث بعض هؤلاء الأطفال فإنها لن تسلم من صعود بعضهم على سقفها أو التجمع حولها، وكأنها ظبي شارد بين قطيع من الذئاب، وإن قدر لك الدخول في هذا الحي وقادك تفكيرك أن تنزل من سيارتك؛ فسينطبق عليك حال معلم الصبيان الذي جاء إلى الجاحظ يشكو له جُرأة تلاميذه الذين خلعوا عمامته وصفعوه من قفاه لمجرد أن الدرس انتهى وحان وقت الخروج الذي حان معه زوال هيبة معلمهم التعيس!.
أما حارة "الضبان الحرشان" فقد وَجدت في كاريكاتير نشر في صحيفة الرياض "للكاريكاتوري" المعروف محمد الخنيفر اسماً مميزاً انطلق من حي العزيزية جنوب مدينة الرياض، وزاد من شهرتها كتابات وتعليقات الكاتب الساخر "معوكس" قبل ما يقارب من ثلاثة عقود.
وتستر الأسماء في فضاء مدينة الرياض -حتى اليوم- دالة على أحداث ومناسبات متعددة ومختلفة باختلاف سكانها كشارع مليون في "خنشليلة"، وشارع "إبليس" في السليمانية، "والقراطيس" في العليا، والتحلية، والضباب، والعصارات، "وإنكاس"، والخزان، والنازية، والبراميل، ومازالت هذه الأسماء متداولة عند البعض وتغلب على أسمائها الرسمية التي اعتمدتها أمانة منطقة الرياض؛ ليبقى الرهان مع التاريخ فيما ستحفظه الأجيال القادمة عن أسماء ومسميات أحياء وأسواق وشوارع مدينتة الرياض التي كانت قبل زمن مضى مدناً وإمارات قبل أن تتوحد -ولله الحمد- لتصبح مدينه الرياض العامرة.


شارع البطحاء ويبدو مجرى الوادي الشهير في المنتصف


بوابة قصر الحكم قديماً «ملتقى الأهالي والزوار» في الستينات


شوارع الرياض القديمة حافظت على مسمياتها التاريخية


لجنة نزع الملكيات تباشر مهتمها في أحد الأحياء