Abstract Art
من أهم الأسباب التي دفعت بنا إلى كتابة هذه الورقة حول الفن التجريدي أو المدرسة التجريدية أو الحركة التجريدية أو التجريد، كل هذه المسميات تعني شيئاً واحداً كل هذه المسميات تعني شيئاً واحداً في أدبيات الفن التشكيلي من باب الإصطلاح، وهنا في هذه الورقة سترد كل هذه المسميات بمعنى واحداً أيضاً كاصطلاح إجرائي، من أهم الأسباب كما أسلفت، ورود هذه المسميات على المستوى النظري والتطبيقي في ممارسة بعض منا نحن التشكيليين السودانيين بمفاهيم نظن أنها تحتمل الكثير من القصور في إدراك هذه الحركة من باب معرفة مرجعياتها وتطورها ومآلاتها ومراميها في فضائها الثقافي الذي يرتكز على إطار اجتماعي محدد في زمان معين شهد الكثير من التحولات في أصعدة مرصودة معرفياً.

التجريد توصيف نقدي لمنجز في الفن التشكيلي جاء نتاجاً لتطور تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي الذي تمركز في فرنسا بمدينة باريس العاصمة في مستهل القرن العشرين إبان مقدم (الحرب العالمية الأولى) "Pre-World war 1"

وبدايات الفن التجريدي، يؤرخ لها عادة بالعام 1912م وفق ما جاء في كتابات مؤرخ الفن التجريدي- هكذا يعرف عند بني جلدته- ما يكل سيوفور، الذي يبدأ مقدمة تاريخه للفن التجريدي بعبارة نوردها كما جاءت في النص الإنجليزي وسنؤسس عليها تحليلنا لاحقاً ضمن متن هذا المقال وهي:

"Something has it's Beginning when there was Nothing"

وأترجمها كالتالي: "شيء يبدأ من حيث ليس ثمة شيء"

هذه العبارة وردت في مؤلف للكاتب المذكور، بعنوان- ترجمته (الفن التجريدي- خمسون عاماً من العطاء- من كاندنسكي إلى جاكسون بولوك) نيويورك- دار نشردل- الطبعة الثانية- 1967م.

يصنف الفن التجريدي ضمن مدارس التشكيل في تاريخ الفن الأوربي ويأتي في الترتيب قبل المدرسة السريالية وبعد الانطباعية.

من أقطاب الفن التجريدي المؤسسين:

كاندنسكي الذي تنسب له الريادة ثم جورج براك، يابلوبيكاسو، روبرت دلاوني، جوان كريس، سونيا دلاوني، مايكل لاريوني، جاك فيلون، موندريان، فرانك كيوكا، فرناند ليجه، استانتون ماكدونالد رايت، كاسمير مالفيتش، فرانسيس بيكابيا.

وهؤلاء من فترة التأسيس 1912م إلى العام ب1915م الذين استمروا بعد ذلك:

موندريان، ثيوفان دوسبيرج، فرناندليجه، انطونيو فستر كاندنسكي، سونيا دولاوني، جوان كريس، جان قورن، روبرت دولاني، كبرت شويترز، أوغست هيرين، سرح شاركوت جان فوتيير، جان إثلان، أندرولانسكوي، من العام 1915-1959م.

جاء من بعدهم:

بيير سوليجتز، الفردمانسيير، جيرارد اشنايدر، جان مول، فرانز كلاين، جاكسون بولوك، فريتز ونتر، جاسيرمونز، ليون بولك، اشمز، أورل نيومرز، فيكتور ياسمور، بن نيكولسن، جورج ميسترمان، ارتورويان فانتي، أنطونيو سورا- إلى العام 1960م وما بعده.

مادة جرّد القاموسية تكاد تستوي في المعنى في معظم اللغات المعروفة وهي تفيد دائماً، معنى التقليل أو النقص أو الاختصار وما يفيد المعنى النقيض للإخصاب والغنى والنمو والازدياد.

جاء في تعريف كلمة تجريد من قبل مجمع اللغة العربية في مصر وتحت مادة ج/ر/د/ المعجم الوسيط، إخراج إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر ومحمد علي النجار، والذي تم طبعه في تركيا – اسطامبول ( دون تاريخ) جاء ما يلي:

" عزل صفة أو علاقة عزلاً ذهنياً وقصر الاعتبار عليها أو ما يترتب علي ذلك"

وجاء في تعريف ، الحركة الفنية التجريدية من ذات المجمع كالتالي:"التجريدية اتجاه حديث يقوم علي تصوير فكرة الفنان أو شعوره تصويراً لا يعتمد علي محاكاة لموضوع معين مع استخدام الألوان أو الأشكال الهندسية أو الأنغام الموسيقية"

هذا التعريف ، بالرغم من حسن الاجتهاد فيه إلا أن به ضعفاً بيناً عند مقارنته بتوصيف أهل الحركة لحركتهم الفنية التي تتبني معني مركزياً مباشراً يقول بغياب الموضوع من العمل الإبداعي تماماً، بينما تعريف المجمع يستبعد المحاكاة فقط ، ولكن ربما كان الموضوع ماثلا بصياغة خاصة بعيدة عن المحاكاة، وهنا وجه الضعف.!

للتجريد تعريفات اصطلاحية عديدة تنتظم مداخل معرفيه مختلفة ، ففي الفلسفة مثلاً يعني: عزل ظاهرة محددة عن مجموعة ظواهر أخري ومناقشتها علي حدة ، وفي علم القواعد بالنسبة للغة الإنجليزية ، أسماء مثل الموت ، الكرم ، الجود ، الحب ... الخ تجرد من أداة التعريف وهذا يسمي تجريد.

عموماً ، مادة جرّد في معظم اللغات المقروءة تفيد معني القحط والفقر والعوز والجدب ، ففي العربية:

الفرس الأجرد : الذي لا شعر له

الأرض الجرداء : لا زرع فيها

والتجرد من الثياب ، ورجل متجرد ، أي متجرد مما يعيب في نظر الناس ، ومتجردة النابغة الذبياني التي سترت نفسها بيدها عوضاً عن ثيابها،

" سقط النصيف ولم تردا سقاطه * فتناولته وآتقتنا باليد"

وربما أطلق أسم الجراد علي الحشرة المعروفة ، لأنها تعمل علي تجريد الأرض من ثوبها النباتي قبل أوان خلع الثياب، وكذلك العسكري الذي جُرد من الرتبة وجرد المخازن وتجريده الشرطة وما إلي ذلك من مسميات شعبية كثيرة يضيق المجال عن حصرها.

الفن التجريدي نشأ في بيئة ثقافية أوروبية ، في سياق تاريخي محدد ،في فترة زمنية محددة انتظمتها أحداث معلومة ورفدتها أفكار وفلسفات واكتشافات وصناعات وحروب ونظريات وعلوم تمهد للاستعمار وتزكيه وفق الرسالة المزعومة للرجل الأبيض (white man's Burden) وفيما بعد المركزية الأوربية التي تتخذ من العالم كله مداراً لها.!

نشأ الفن التجريدي كما اسلفنا ضمن تطور تاريخ التشكيل الأوروبي الذي ولد في الحضارة الاغريقية وأنطلق فعليا من المدن الإيطالية أبان النهضة وقمتها مروراً بالحواضر الأوروبية المعروفة أنتهاءاً بباريس الفرنسية عاصمة الثقافة الأوروبية في مجمل القرن العشرين.

ظهور المدرسة التجريدية أو الفن التجريدي في تطور الثقافة الأوروبية مبرر لأنه ناتج مراكمات محددة من قبل شخوص مبدعة لهم تأثير نافذ داخل منظومتهم الثقافية ، ولكن بمقايسة ذات الثقافة بنفسها ، فإن واحدة من أضعف الحلقات التي أنتجتها في مجال التشكيل تحديداً هي ما يعرف بالفن التجريدي في منظورنا وذلك لأسباب عدة أهمها:

ضعف الأداء التشكيلي وغياب الفكرة والموضوع وتغليب الناحية الذاتية وتكريس الفردانية التي تنأي عن التعبير عن الذات الجمعية.

علي كل حال هي " تقليعة" مبررة في المشهد الثقافي الأوروبي تعبر عن حالة من حالات الإنكسار الثقافي التي قد تلازم في بعض الأحيان أي هوية ثقافية في جميع اصقاع المعمورة.

دفعت كلية الفنون بالخرطوم – السودان بالعديد من الذين درسوا بها – تحديداً بعيد السبعينيات إلي فضاء العمل الثقافي وصاروا يقيمون معارض دورية في الفنادق وفي صالات المراكز الثقافية الوافدة ، المتتبع لهذه المعارض يلاحظ كثرتها أولاً وهذا أمر جيد ينبئ عن عافيه ثقافية بعكس ما كان سائداً ، وفي المقام الثاني ، سوف يكتشف الرائي أن اللوحة ذات نسق واحد في كل المعارض رغم اختلاف العارضين ، ذلك لأن هذه اللوحة تحاول في عناء اقتفاء أثر الفن التجريدي وتمثله كما جاء وفق تطور الفن التشكيلي لدي الأوروبيين في طرائق للمحاكاة والإتباع دون وازع ثقافي.!

هنا ثمة أتباع كثر لمذهب تبريري يزعم أن الفن التجريدي هو منتهي الحداثة في ظاهرة التشكيل وهنا مكمن الأزمة الخانقة ، لأنه ببساطة ليس آخر شيء هو أفضل شيء ، لكن توخياً للدقة والموضوعية ، ربما كانت به بعض المزايا الايجابية شأن أي تجربة مهما حُفت بالصفات السالبة، ونحن لا ننكر بعض أفضال أقطاب هذه الحركة علي المعمار وبيئته النفسية أو ما يعرف بالتصميم الداخلي فيما يتعلق باستخدامات اللون .