التشكيل السوداني المعاصر
الحداثة على قواعد التراث في الآداب والجغرافيا والآثار
بروفيسور أحمد محمد شبرين
جريدة الراية القطرية الإثنين 29/5/1995
المصدر : ملتقي الفنانين التشكيليين السودانيين

أقول مهلاً للذين يستفزهم مثل هذا العنوان: ذلك أن الحديث عن التراث قد عرض نفسه كثيراً بفعل الأقلام التي تناولته في النشر المحلي أو العالمي – كتباً ومجلات وجرنان وبحوث في جامعات ومؤسسات ثقافية في كل البلدان: ولم يخل حديث من الإشارة إلى حديث آخر أو مفهوم آخر من جنس القبول أو الرفض بمجمل أو بعض الأفكار التي تبلورت، وكذلك الحديث عن المعاصرة في جماليات الفنون التشكيلية فهو أيضاً قد تمدد وتربع وأعلن عن نفسه عرضاً وتحريراً ونقداً حتى أصبح من المسلمات في لغة العصر ومعارفه في الفكر الجمالي.
والناظر في مجريات الحداثة هنا أو هناك، يقف عند حقيقة مفادها أن أنصار التراث مولعون به ولا يبصرون مع غيره حقيقة جدوى إمتاع إبداعي لا محرراً ولا مسموعاً ولا مرئياً: فهم يفتحون له كل مسام مدركاتهم ليتسرب إلى دواخل الذات ليتشبع به كل وجودهم. وكذلك أهل المعاصرة، تراهم يدافعون ولا يتركون شاردة أو واردة لتقوية الحجة لنصرتها – يعترفون بها كقول فصل في قيم الفكر الإنساني المنعتق عن السلفية وتحفظاتها وجذبها إلى ذات الموقع القديم.
كان جل التراث السوداني في علم الحضارة والتاريخ تراثاً مضموراً في باطن الأرض وكانت أشواقنا إلى رؤيته أشواقاً متعطشة للوقوف عنده بعد أن يتم التنقيب والفرز والمشاهدة والتأمل والتبصر المباشر إلى مكوناته وصياغاته العامة والخاصة. وليس هناك أبدع من الوقوف على آثار الماضي عند مشاهدتها لأول مرة ففي الخمسين عاماً الماضية شهد السودان نشاطاً عظيماً في الكشف عن الآثار السودانية لعهود لا تقل عن ثمانية ألف عام. وجميع ذلك كان يمثل حضارات السودان القديمة. وأقصد بها حضارة النوبة القديمة المجاورة لحضارة مصر الفرعونية. ثم حضارة الممالك الكوشية وحضارة مروي. وكل ذلك كان يحدث في النصف الشمالي للسودان ويمتد شرق النيل وغربه ويمتد تأثيراً بدرجة معينة إلى جنوب الأواسط والجنوب وفق التواصل القديم الذي كان يحدث.

ولقد كان هنالك توافق عجيب بين ظهور هذه الثروة الأثرية والتأسيس الجديد لعلوم وفنون التشكيل في السودان. فعام 1947 كان حافلاً بالإطلالة الأكاديمية البحثية في الآثار السودانية، ومن ثم تضافرت جهود العلماء من داخل السودان وخارجه بحثاً وتنقيباً تحت طبقات الأرض. وهو ذات التاريخ الذي تأسست فيه كلية الفنون الجميلة والتطبيقية وبدأت فيها الدراسات الأكاديمية النظرية والتطبيقية ثم بدأت في تفريج الدارسين ليأخذوا مواقعهم في حركة الإعمار في الحياة السودانية المعاصرة.
وحتى الآن هنالك أشياء كثيرة في تراثنا السوداني يجري البحث فيها متابعة ومقارنة وجهداً لفك شفرتها. وهو أمر لم يحدث إلا في السودان عندما تتم المقارنة مع جميع بلدان العالم. وأقصد بذلك البحث عن فك شفرة اللغة المروية القديمة. صحيح أن علماء الآثار قد إستطاعوا أن يتعرفوا على (أبجدية) هذه اللغة، لكنهم فشلوا حتى الآن في فك طلاسم الألفاظ والكلمات والعبارات – وهذه تمثل القواعد الأساسية لقراءة التاريخ وأحداثه – ولقراءة فكره وحكمته وخياله، والوقوف على جملة التواصل وطرق التفكير في التعامل الإجتماعي اليومي.
والناس في السودان يحبون التاريخ بحقائقه في موجوداته، وينفعلون بجدلياته وأساطيره وبطولاته وإنتصاراته وحتى الهزائم يعتبرونها عارضاً وقتياً وليس أصلاً في الخاصة الإنسانية.. فالشعر عندهم يجئ اعظمه في رفع لواء الوطنية والتمسك والإعتزاز بها وتشخيص أخلاقياتها ويأتي ذلك في لغة وبيان الملاحم والمدح والثناء.. وهم مقلون في الهجاء وأضرابه في التصوير الأدبي.
وهذه الصفة وغيرها جعلتهم يتمسكون بسير النبل وكره التعالي والإستعمار والسيطرة الخارجية على فضائلهم التي يتمسكون بها ويزودون عنها. فهذه مواقف تحتاج إلى الدراسة والتحليل في علم الأنثروبولوجيا الثقافية. وهي ذات الأسباب التي جعلت السودان يتقدم مبادراً في مكافحة الغزو العسكري والثقافي الخارجي وهم بذلك سبقوا الكثير من البلدان الأفريقية والعربية المعاصرة... فثورة الإمام المهدي وثورة 1924 من بعدها والإنتفاضات المتلاحقة... كل ذلك كان يحدث على مستوى جميع الأرياف التي تكون جغرافية السودان.. إذاً يمكن أن نجمل القول بأن الفضائل الإجتماعية هي أساساً القاعدة المتسعة للفكر والتعبير الثقافي.. حدث ذلك في الأدب والشعر.. ويحدث الآن كذلك في الملامح المكونة للعمل التشكيلي في مجالات التصوير والنحت وفنون الغرافيك وتراكيب الزخرف على سطوح المواد الجلدية والخشبية وغيرها من الخامات الكثيرة المتوفرة في مناخات السودان المتعددة.. والفنون السودانية في شعرها وفي تشكيلها لا تعرف رخاوة النسيج ولا ضمور البديع فيها.
والأصل في كل ذلك مكنون في التراث الشعبي بأمثاله وحكاياته ومصنوعاته اليدوية.. وثقافة السودان في كل ذلك هي الثقافة العربية بكل مثلها في القرآن والحجيث المأثور في الأدب العربي شعراً وبياناً قطرياً معبراً في كل الشئون الحياتية التي وقفت عندها اللغة العربية بآدابها معبرة مفصحة مبينة.. وهذا التراث في خزانة اللغة العربية وآدابها هو الأصل في حضارة السودان للألف وخمسمائة عام الماضية.
فالشعر السوداني والتشكيل السوداني في ضروب التعبير مركزان أساسيان في النشاط الإبداعي.. ولا نخص القول إن أردنا أن نبرز دور السودان في كل نشاط الجماليات التشكيلية العربية المعاصرة. وقد صار معلوماً أن "الحروفية" العربية في حركتها التجريدية التصويرية قد إنطلقت أصلاً من السودان. وهي ما هو متعارف عليه "بمدرسة الخرطوم" وهي المدرسة التي أرخ لها نقداً الأستاذان في علم تاريخ الجماليات – العالم الألماني "يولي بايير" والأستاذ دينس وليمز من جمايكا ولقد كان أستاذاً للفنون في كلية الفنون المركزية بلندن حتى عام 1955 ثم جاء للسودان ودرس فنون الغرافيك في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم... ثم هاجر إلى ناجيريا وعمل هناك بالتدريس في جامعاتها.
وأنا حين بدأت حركة "الحروفية" بتجريد الحرف العربي – كان ذلك عام 1960 – لم أصدر بياناً لنظرية أو أطرأ تحليلية نقدية لتكون مقياساً تستخرج منه قواعد العملية الجمالية في الحرف العربي.. بل كنت مشغولاً بالنتاج أصلاً، ثم بالتحضير لعدد من المعارض بالخرطوم. أو في بيروت بغالري "1" أو مشاركة في معارض جماعية داخل السودان وخارجه.. لم أكتب معلقاً أو محللاً إلا بعد مدة سنوات طويلة، أن فنوننا التشكيلية تجد قاعدة رحبة في التراث الإبداعي العربي الإسلامي.. وتجد مدداً لا ينقطع في آداب اللغة العربية وشعرها، والشعر السوداني بمميزاته البيئية الجغرافية وبسيرته الإجتماعية يمثل الرصيد الذي لا ينفد.. ولعلها ملاحظة جديرة بالظهور أن كثيراً من أعمال السودانيين الذي يشتغلون بالتشكيل تظهر مرئياتهم من خلال راجمالية شعرية.. بل كل مفردات التكوين للمرئيات تفصح عن هذه الخواطر الشعرية.
أريد هنا أن أقول إن أعمال التشكيل عند السودانيين لا تعرف الحدود لما بين التراث والحداثة – ولعل لذلك أسباب أخرى يجدر بي أن أعطى طرفاً منها، ذلك أننا في السودان نعايش تراثنا وثقافتنا بدون ضجر منها.. بل كلما تعمق الدارس للخصوصية الثقافية في التراث السوداني، يكتشف عناصر القوة والعطاء تبرز بملامح متجددة من جنس ذات القديم.. وسبب آخر وهو أن الغزو الثقافي الخارجي على ثقافتنا في الأدب والفن لم يطمس الجذوة ولم يبتر الجذور لم يلون المساحات ولم يشوه الملامح الأصيلة فيه ربما يكون ذلك لبعدنا من مناطق التماس "القسري" كما حدث لبلدان كثيرة في أفريقيا والعالم العربي.. لكن صحيح أن التماس والتعايش الإختياري كان موجوداً.. وهو موجود حتى الآن.. لكن صفة وجوده ذات طبيعة مختلفة.
والسودانيون بصفة عامة يتعشقون البحث في المعارف الإنسانية – خارج حدود السودان – لكنهم يدفقون في إختيار الأعمال للتمثل بها مقارنة وإستقطاباً ولا يشتغلون بذلك وفق الحدود المتفق عليها في التحديدات القاطعة للمدارس الفكرية المتعارف عليها في موسوعة "النقد الثقافي".. بل لهم نظرة شمولية لإستقطاب الإشارات الإنسانية العميقة ذات الصفة العامة.
إعتقد أن هذا يمثل مرتكزاً أساسياً وعاملاً مؤثراً في سلامة الإختيار عندما تكون الأصول والفروع الثقافية ذات قيم ترتبط بالإنسان وقيمه في الجمال عموماً.. فآثار حضارات الشرق ومعارف العالم الغربين جل ذلك لا ينظر إليه بمفرزة متعصبة لهذا أو ذاك، بل نعتبر كل ذلك إرثاً إنسانياً دون وضعه في وصفات تمجد هذا وتقلل شأن ذلك ولعل تصانيف القرن الماضي والقرن الذي نعيش فيه، هي تصانيف الدراسات التخصصية في المذاهب والمدارس الفكرية كالواقعية والتعبيرية والتأثيرية والرمزية والتجريد – وما بين هذا وذاك فروع من الأصول المعرفية لها أيضاً أسماؤها.. كل ذلك يحدث إلا أننا لا نعتبر ذلك حداً فاصلاً لقبول العمل أو رفضه.. فكبار الأدباء والشعراء والتشكيليين – بل حتى الشباب من المشتغلين السودانيين في مجالات الآداب والفنون لا يسلكون مذهباً بعينه من المذاهب المعارف عليها. وأن شعراء كبار لا تعنيهم هذه التقسيمات. ولا يسمون نتاجهم بهذه الأسماء لكنك تلحظ أن في أعمالهم تنوعاً يشمل جميع تلك المدارس. وبنفس القوة ولنفس التأثير المرجو من العمل الأدبي.. وهذه السيرة ذاتها تحدث في الفنون التشكيلية. يوجد التعبير بالمضامين الرمزية والتعبيرية والتجريد كما يوجد الزخرف والتراكيب ذات الصفة "الغرافيكية".. ويصعب جداً أن تصنف أديباً أو شاعراً أو تشكيلياً سودانياً. وتسمى نتاجه بالمذهب الواحد المعين.
وها هو الشاعر السوداني المرحوم محمد الهادي المجذوب يعلن صيغة أدبية بديعه في قصيدته "المولد" ويجئ مقطعه يخاطب جميع الشعوب بأن قدر الذرة سيكون قدراً مشاعاً عند بلدان العالم الثالث ومن ثم يتصالح الكبار الذين يملكون الذرة وعلومها لوضع الأسس والإتفاقيات السياسية خوفاً من خطر إنتشارها بين الدول الفقيرة وقد تنبأ شاعرنا بأن الدول الضعيفة حين تمتلك قدرات الذرة فسوف يعين ذلك السلبي بين شعوب الأرض وهو يقول:
أيكون الخير في الشر إنطوى
والقوى خرجت من ذرة هي حبلى بالعدم
أتراها تقتل الحرب وتنجو بالسلم
ويكون الضعف كالقوة عزماً وذماماً سوف ترعاه الأمم
وتعود الأرض حباً وإبتساماً
هذا المقطع الشعري إنطلق في الستينات ولم تكن الذرة وقتها في حوزه الدول الصغيرة أو الضعيفة وكذلك ويمثل هذا التنبؤ أبدع الشاعر السوداني المرحوم التجاني يوسف بشير في الثلاثينات وهو يطرح السؤال الكبير في إحدى قصائده في ديوانه (إشراقة). هذه الذرة كم تحمل في العالم سراً.
مثل هذا الفكر في الأدب السوداني كثير وهو يؤكد بأن الثقافة السودانية تمد الأذرع لإحداث الدنيا قبل موعدها بعشرات السنين ومثل هذا الأدب يؤثر كثيراً على الرؤية التشكيلية عند كثير من الفنانين السودانيين. ورغم أن لغة التشكيل تساوق في خطوط ومساحات التجريد وهذه لغة تكتشف بقدرة العين المدربة في إيجاد علاقات التكوينات ذات التأثير القوي في الرؤية.
نلاحظ أن التشكيل السوداني تنعدم فيه فنون التشخيص الواقعي ذلك أن الفن السوداني لا يعتمد على التشخيص المباشر في توصيل الرسالة الثقافية الجمالية وهو كالشعر أيضاً غير مباشر في المخاطبة ولقد قدمت لذلك في صدر هذا الحديث لكن لابد من إضافة البعد الجغرافي كبعد ذا مواصفات معينة إعتمد ويعتمد عليها التشكيل السوداني المعاصر ذلك أن مساحة السودان تقدر بمليون ميل مربع وأن سكانه يزيدون عن الخمسة وعشرين مليون نسمة، وأن به روافد أنهار تزيد عن الثلاثة وعشرين نهراً هذا خلاف نهر النيل العظيم.. الذي ينحدر من مصبيه قاطعاً آلاف الأميال إلى البحر الأبيض المتوسط. ومناخات السودان متعددة الصحارى والسافنا والغابات جبال وسهول