حركة الفن المصرى المعاصر بين المحلية والعالمية[1]
مقدمة
الحركة المصرية منذ نشأتها ارتبطت بالفنون الغربية سواء بالتعاليم الأكاديمية التي كانت تدرس بمعلمين من الفنانين الأجانب الفرنسيين والإيطاليين فى مدرسة الفنون الجميلة منذ افتتاحها عام 1908, أو بالتدريس في الاستوديوهات الخاصة بهم , أو بالانفتاح على المذاهب والاتجاهات الغربية نتيجة للرحلات الخاصة من الفنانين أو البعوث الدراسية إلى الغرب. كان هذا التفاعل بداية التعرف على فنون الغرب وبداية لبزوغ فكرة الفن المصري المعاصر.
أيضا يرجع إلى موقع مصر المتميز بين الشرق والغرب. وماضى ممتد عبر العصور عريق من الحضارة الفنية, وهو ماض متصلا بالتبادل الثقافي مع ما حوله من حضارات أثر فيها وتأثر بها , وخلال هذا الخط المتصل من التاريخ الحضاري قدمت مصر تاريخا متنوعا من الإبداع الفني . وكان هذا الاتصال بين الفن المصري المعاصر والفن الغربي فى العصر الحديث بمثابة ضرورة حتمية للحاق بالنهضة الثقافية والتنوير .
وتأصيل المذاهب والاتجاهات الغربية بالواقع الحضاري للتراث أو الواقع الاجتماعي والبيئي بين الموروث الذي يشكله الماضي من حضارات (مصرية قديمة – قبطية - إسلامية) والحاضر المتغير الذي يتمثل في حضارة الغرب, كان التفاعل حتمي لتجاوز الشعور بالغربة تجاه الفنون عند الفنان صاحب الموروث التقليدي. ويؤكد قدرة الفنان المصري على استلهام التراث بروح العصر الحديث في مواكبة العالم بأحدث اتجاهاته الفنية. وقدرته على إعادة اكتشاف الواقع برؤية معاصرة كنوع من التثقيف ونشر الوعي الفني والثقافي والتاريخي للحضارة والواقع البيئي والاجتماعي.

مشكلة البحث
انطلقت نهضة مصر الحديثة متفاعلة مع تطور الثقافات الأخرى في العالم الحديث لتضع أسس ثقافة حديثة تواكب العالم المعاصر وقد كان هذا التفاعل بداية التعرف على فنون الغرب وبداية لبزوغ فكرة الفن المصري المعاصر , بكل ما يحمله الفنان من موروث ثقافى بتراكماته المعرفية العميقة, و التى تستمد خصوصيتها وتميزها من جذور الثقافات المصرية عبر العصور المتتالية, .. مما يطرح التساؤل ماهو موقف الفنانين فى حركة الفن المصرى المعاصر تجاه الموروث الذى يمثل الفنون المحلية والوافد الذى تشكله الفنون العالمية ؟


هدف البحث
يهدف البحث الكشف عن اوجه الاختلاف بين مواقف الفنانين والنقاد تجاه الفنون المحلية والعالمية فى حركة الفن المصرى المعاصر .
فروض البحث
يفترض البحث إمكانية الكشف عن اوجه الاختلاف بين مواقف الفنانين تجاه الفنون المحلية والعالمية فى حركة الفن المصرى المعاصر.
أهمية البحث :
ترجع اهمية البحث الى.
1-الكشف عن مفهوم الفن المصرى المعاصر .
2-دراسة تتبع تاريخى لاختلاف مواقف الفنانين تجاه الفنون المحلية والعالمية .
3-تأكيد الوعي بأهمية وضرورة الفن , واعلاء روح النقد والتفسير تجاه الفنون.
نشأة الفنون الجميلة بمصر وارتباطها بالفن الغربى
لقد استمرت مصر عبر قرون عيدة مصدرا للحضارة والفنون والثقافة ، وعلي مر التاريخ الممتد من الفرعونية والإغريقية والرومانية والمسيحية والإسلامية شكلت كل عصر بسمات فريدة , ولا شك أن بداية الاهتمام بالفنون الجميلة منذ أوائل القرن العشرين بمصر ارتبطت بتلك التيارات, التي كانت تشكل الحياة الثقافية وتموج بتفاعل بين أقطابها من مفكرين وعلماء, وكان لتبنيهم الدعوة للفنون تمثل إحدى الصراعات الناتجة عن تساؤلات لخصوصية اللحظة, والتي تحمل "الثنائية" بين الموروث الذي بات ساكنا والحاضر المتغير.
وجاء التفاعل لحركة الفنون التشكيلية المصرية منذ نشأتها بالانفتاح على المذاهب والاتجاهات الغربية نتيجة للرحلات الخاصة من الفنانين أو البعوث الدراسية إلى الغرب أو بالتدريس في الاستوديوهات الخاصة بهم, أو المشاركة فى المحافل الدولية وعوامل اخرى عديدة يرى الباحث ان ذلك يرتكز بشكل اساسى على محورين , الاول المناهج التعليمة والاخرموقع مصر الجغرافى .
فمنذ نشأة الفنون الجميلة بمصر ارتبطت المناهج التعليمية للفنون بالمناهج الغربية وذلك من خلال مدرسين أجانب من الفرنسيين والإيطاليين (اعتمدت حركتنا الفنية في أصلها على عدد من الفنانين الأجانب الذين كانوا يقيمون في مصر, ويتولون تعليم الفن في المعاهد أو الفصول الخاصة, أو الذين استدعوا إذ ذاك من الخارج للتدريس في المعاهد الفنية العامة) (رمسيس يونان – 1969 – 149) مع بعض التحفظات لقدرات هؤلاء المدرسين وأساليبهم الفنية التي وصفت "بالأكاديمية"(أنها كانت أساسية بها قواعد الرسم والمنظور والتجسيم والرومانسية والإغريقية القديمة, بالإضافة إلى نماذج الطبيعة الصامتة, التي تشكلها الفاكهة وثنيات الستائر والمزهريات, والإضاءات الخافتة كموضوعات تقليدية بغرض محاكاتها.) (محسن عطية – 1996-200) بل ومازالت أغلب مناهج تدريس الفنون تستمد من المناهج الغربية الى الان .
أما من حيث الموقع الجغرافي لمصر وأثره على ارتباط الفن المعاصر بفنون الغرب, فيشير "بدر الدين أبو غازي" إلى موقع مصر المتميز بين الشرق والغرب وذلك في قوله: (جاء ظهور الفن المصري المعاصر أيضا بعد فترة, صمتت عن التعبير الفني وفى مرحلة التقت فيها فكرة بعث الروح القديمة, مع التطلع نحو حضارة البحر المتوسط وتيارات العصر المتدافعة… وهذا اللقاء بين روح مصر والحضارات الوافدة, يمثل حلقة من حلقات التزاوج الحضاري الذي تكرر فى تاريخها, وفرضه على مصر موقعها وظروفها) (بدر الدين أبو غازي – 1965 – 130) ويتفق هذا أيضا مع ما طرحه "حسين بيكار" في مقال له بعنوان (الاعتدالية) عام 77 في قوله (مصر بطبيعة موقعها الجغرافي مفتوحة الأبواب على جميع العالم.. تأخذ وتعطى منذ القدم. ومن حقها أن تأخذ عن الغرب ما يلائم طبيعتها, وهذا هو ما دفعنا إلى التفكير في مستقبل ثقافتنا لتعويضها عما فاتها في عصور التخلف).(حسين بيكار – 1999 – 398)
جيل الرواد والبحث عن الشخصية المصرية
مع بداية جيل الرواد فرض الواقع الثقافي بمصر آنذاك طرح مشكلة البحث عن الجذور والروافد المشكلة للشخصية المصرية, ومع تواتر ذلك التفاعل الثقافي بين أقطابها ومفكريها وعلمائها, كان للفنانين "محمود سعيد, محمد ناجى, محمود مختار, راغب عياد, يوسف كامل, أحمد صبري" دورا هاما للدخول في ذلك الصراع البناء للوقوف على خط مواز للريادة في نهضة الفنون التشكيلية داخل المشروع الحضاري للمصريين, تطلعاتهم إلى فن مصري جديد, فقدموا الرؤى المختلفة, لفن يحمل آمال وطموحات الشعب. ومع التطور التاريخي وزيادة التدخل الغربي فى الحكم, تغير مفهوم "القومية" على يد جمال الدين الأفغاني, ومحمد عبده وعبد الله النديم, فأصبحت "القومية" هي نداء إلى التخلص من الاستعمار الأوروبي ومطامعه فى إطار حركة جامعة إسلامية, تستظل بالخلافة الإسلامية. وأخذت المعارك السياسية فى الاحتدام بين توجهاتها المختلفة , نتيجة مباشرة للتدخل الأجنبي من جهة, والباب العالي من جهة أخرى, وعدة عوامل أخرى أهمها العامل الاقتصادي والاجتماعي, لطبقات الشعب المختلفة.وأخذت مفاهيم القومية تناقش من خلال ما أثاره المفكرون من قضايا مثل قضية التقليد والتجديد, والتوفيق بين الإسلام والعصرية, بين الإيمان والعقلانية, وتحرير المفكرين من سلطة رجال الدين.ومعارك تحرير المرأة , وتمكينها من المشاركة فى الحياة, والمعركة الوطنية ذاتها, هل هي قومية إسلامية, أم قومية عربية, أم قومية مصرية أم فرعونية, ومعركة تجديد اللغة العربية وتطويعها لاحتياجات المجتمع والعصر, و قضية القديم والجديد فى الأدب, ولم تكن حركة الفنون التشكيلية بمعزل عن هذا السياق العام, بل كان للفنانين إسهاما واضحا في تحديد معنى القومية وتجسيده, ويعد نشاط الفنانين خلال الجماعات الفنية أحد الجوانب الأساسية في تشكيل تلك الرؤية نظرا لأنه لم تخلو جماعة فنية من ترديد مبدأ البحث عن شخصية فنية مستقلة تميز الفن المصري. فحدد محمود مختار معنى "للقومية" فى تجسيد تمثال نهضة مصر (أول عنوان يقرؤه العابر فى ميادين القاهرة من كتاب نهضتنا الفنية, أو إن شئت فقل من كتاب نهضتنا القومية فى شتى فروع الحياة).(بدر الدين أبو غازي – 1973 – 132)
الميراث الحضاري للفنون المصرية القديمة, والقبطية والإسلامية في مقابل الفنون الغربية, ظل هذا التوجه كمعيار أساسي ضمن المعايير المستخدمة ومكون اساسى في حركة الفن التشكيلي المصرى , فكان استمرار بعض الفنانين في الكمون وراء البحث عن الاصول والجذور للكشف عن الشخصية في الفن كأحد المقومات الأساسية لآلية الدفاع النفسي الجماعي المحاطة بحالات الإحباط والفشل وعدم القدرة على التوافق مع تحولات آلية التقدم عند الغرب, بغرض إعطاء نوع من التوازنات بين الذات المحتلة والآخر.
التحول نحو الحرية على نهج فنون الحداثة الغربية
وخلال الثلاثينات أخذ ذلك المعطى السابق مستوى آخر في التعامل زاد في تطلعاته للحضارة الغربية, وتبدل الفرض ميلادا للتحول عن كثير من المفاهيم التي انتشرت في عصر الرعيل الأول والتحول عن قضية النهضة ذاتها ( إن اللجوء إلى الماضي البعيد يعتبر, طبقا لجورج حنين, تقهقر وهروب أمام "اللحظات التاريخية الممقوتة" التي نعيشها والتي "توحي لكل فرد رغبة شديدة للهروب منها", ويؤكد جورج حنين (أن السريالية "تشييد وسط التخريب" والجماعات السريالية وقتها, تواصل جهادا لا هوادة فيه ضد التحفظ والرجعية بكل أشكالها, وضد الخمد المنظم لجميع الأذهان). ( سمير غريب – 1986 – 91)
إن المواجهة الحقيقية لجماعة "الفن والحرية" أحد العلامات البارزة في تاريخ الحركة التشكيلية بمصر, ويتضح ذلك من التصريحات والبيانات التي أصدرتها الحركة للشاعر جورج حنين فى محاولة للثورة على النمط المكرر ، والتمرد على الأكاديمية وعلى الإحباط الإجتماعى وتناولهم للقضايا الفنية والفكرية العالمية مما دفع بمصير الحركة التشكيلية إلى مزيد من الانفتاح على الحركات والاتجاهات العالمية في الحقبات التي تلتها, ففي بيان "المعرض الأول للفن الحر" من الحلم, الرمز, المصادفة. ويقول : إن إعادة الحركة للخيال السجين مرة أخرى, واعادة الرغبة بكل ما بها من قوة, واعادة الجنون بقوته القاتلة إلى الأشياء.. كل هذا لا يمكن أن يسمى عملا سلبيا .)( سمير غريب 1986 ـ165) كما صدر في بيان "يحيا الفن المنحط" عام 1938 تعبيرا عن تلك الحرية وتمسك بفكره "التقدمية" و اعتبار الأسلوب السريالي طريقة للتعبير عن مشكلات العصر في القول التالي (فمن سيزان إلي بيكاسو وكل ما أنجزته العبقرية الفنية المعاصرة هذا الإنتاج الكثير الحرية والقوى والشعور بالإنسانية, قد قوبل بالشتائم وأديس بالأقدام ونحن نعتقد أن التعصب للدين أو للجنس أو للوطن الذي يريد بعض الأفراد أن يخضع له مصير الفن الحديث ما هو إلا مجرد هزء وسخرية) ( سمير غريب 1986 ـ148)
وتمثل الأساليب الفنية خلال الثلاثينات وجيل الرواد التي سادت الحركة التشكيلية , كان لها أثرها بين جيل الستينات, واتسع نطاق الاختلاف مع سيادة المذاهب الشكلية وفنون التجريد في الفترة التي تلت ذلك .
الاتجاهات التجريبية بمصر وفنون ما بعد الحداثة
فى ظل ما ساد العالم من تطور تكنولوجي عمل على توسيع نطاق وسائل الإعلام والاتصال وكسر الحواجز الثقافية وتجاوز الحدود الجغرافية واصبح العالم أشبه بقرية صغيرة, واجه الفنان المصري المعاصر تحديات اكثر صعوبة مما سبق ومن منطلق دافع التقدم والبحث عن الجديد للصياغات التعبيرية كانت اتجاهات" ما بعد الحداثة " التي شكلت ملامح الفن العالمي منذ منتصف القرن العشرين إحدى الروافد التي ينهل منها الفنان مناهجه الإبداعية شأنها في ذلك كمختلف الروافد الحضارية الأخرى, وتبنى الفنانون مفاهيم "التنوع" و"التبادل" الثقافي وليس "الاستقلال" و"الخصوصية" للتخفف تدريجيا من ثنائية (الأصالة والمعاصرة) التي باتت قوة ضاغطة لفاعليات الآلية الإنتاجية للإبداع الفني والنقدي على حد سواء وبات العالم بأسره أحد المنظومات التي تمثل وحدة تحليل رئيسية لفهم وإدراك الذات المحلية.
إن الحداثة وما بعد الحداثة تعد تعبيرات للإشارة إلى أنماط أو اختلافات شفافية عريضة يمكن فصلها تحليليا عند محاولة إلقاء الضوء على أحد التيارات التي تبناها عدد من الفنانين لإنتاجهم الإبداعي, فمفهوم (الحداثة) في حركة النقد التشكيلي المصري المعاصر غالبا ما استخدمه كلا من الفنانين والنقاد بمعنى الثورة على التقليد والجمود في القوالب الفنية كالدعوة التي تبناها مختار وجيل الرواد في بداية الحركة التشكيلية ثم تلاهم رمسيس يونان وجماعة الفن والحرية وغيرها من الجماعات الفنية والفنانين والتي سعوا من خلالها لبنية كيان لشخصية الفن المصري المعاصر ذا سمة مميزة تتجدد بفعل العوامل الموضوعية والذاتية معا, لذلك كانت الريادة هي الدافع والمحرك دوما في تاريخ الحركة التشكيلية المصرية وتحمل هؤلاء الرواد ( النخبة –أو الطليعة) أعباء تلك المهمة.
كانت الاتجاهات "اللاتشخيصية " فى فترة الستينات برغم ما تحمله فى جنباتها من تجريب وانطلاق نحو ابداع حر لا يحد من أفق الفنان, موضع تساؤل من الفنانين والنقاد والجمهور عن المعنى والمضمون, ولم تكن الجهود النقدية كافية لتوضيحها أو تفسيرها لتـقبل الجمــهور لتـلك الإبداعات بشكل مرضى يضمن اسـتمراريتها, وكلـما ازدادت غموضا على الجمهور أطلق عليها "سيريالـيزم" وأعد أصحابها من المبدعين الملهمين الحالمين, وما الى ذلك من صفات تضع الفنان وأعماله فى طرف نقيـض للواقع, وساهم في تأكيد تلك النظرة بعض أصــحاب الاتجاهات التشخيصية المعادين للتجريد مدعمين آرائهم بالتمسك بالتقاليد والأصول الأكاديمية والتراثية للـواقع الاجتماعى .
وكان العالم آنذاك يشهـد تطورات فن البوب وانصهار الحدود بين الفن العالي والفـن المنخفض, والنزعة التهكمية والنقدية لعالم الاستهلاك واستخدام "الشيء الجاهز" الذى بات موضعا للتأمل كما في "تجمعات Assemblage "روشنبرج, جاسبرجونس, فانطلقت "عفت ناجى" لإضافة عناصر وأشـياء متعدية بذلك كلاج التكعيبية إلى ما يعرف بفن "التجميع" , وكانت الخصوصية باستخدام أشياء من واقع البيئة , بطابع مصري خالص.
أما الفنان "رمزى مصطفى" فقد مارس مثل هذه الابداعات المرتبطة بصياغات "الدادا" والسريالية فى الثلاثينات بأوروبا, وبمفهوم البوب فى الستينات بأمريكا فى أعماله عقب حرب 1967 كأحد الصياغات التشكيلية التى تحمل رسالة تهكمية ففى معرض (فتح عينك تاكل ملبن) )استعان (بصندوق الدنيا) وصور النجوم, والنساء التى وضعها مكان علامات النيشان).
(مصطفى مهدى – 1978 – 323 ) واستمر في تقديم العديد من التجهيزات التى تؤكد على تقديم رؤية للثقافة المصرية فى اطار منهج فنى معاصر. وياخذ التجريب عند "منير كنعان" من منطلقات تستمد قوامها من الحياة اليومية (كان داديا أى حافلا بالأخشاب المحترقة والقفف القديمة والمشدودة الى الجدران واطار المنخل وسلك النملية المستهلك… وما الى ذلك من نفايات الحياة) (مختار العطار – 1997 – 77 )
كما شهدت تلك الحقبة أيضا العديد من تلك الممارسات الفنية التى تجمع بين مجالات مختلفة (كالتصوير والنحت والحفر و..) وأيضا الأساليب المتعددة من اتجاهات الفن الحديث في حالة "نماذج" كما يصفها فنانو جماعة الفنانين الخمسة (نبيل الحسيني – رضا زاهر – فرغلى عبد الحفيظ – الدواخلى – على نبيل وهبه) والتي ارتبطت بمفاهيم قومية خاصة بعد حرب 1967. فقد جاءت الهزيمة بكل مرارتها على رؤوس الفنانين وهم يشعرون أنهم ممتهنون ومخدوعون وأيضا مسئولون في ذات الوقت وكان هذا المناخ المرضى الذي يسوده الكآبة تربة صالحة لانتعاش فكرة التحديث أو الحداثة والبحث عن الذات للتعبير عن إحباطهم ورفضهم المطلق للماضي وشكهم في الحاضر الأمر الذي جعل المستقبل يستشرف إفاقة باليأس.
وقد كان لهذا الجيل (فرغى عبد الحفيظ, على نبيل وهبة, ثروت البحر, أحمد نوار, عصمت داوستاشى, مصطفى الرزاز, مصطفى عبد المعطى, فاروق وهبة, ..وغيرهم) من الفنانين التي بدأت تجاربهم حين كان المناخ العام معبأ بالمد الثوري والشعارات المبشرة بالأمل والمستقبل, وعندما تبلورت تجاربهم ونما وعيهم كانت الحقيقة تدعو لليأس والإحباط, وانتعشت حالة الفن على يد هذا الجيل خلال السبعينات بما طرحوه من إبداع ينقل عالم التجريد والتحليقات السريالية التي كانت سائدة إلى واقع يجمع كل ذلك بحقيقة الأشياء ذاتها.
هذا التحول نحو الواقعية للأشياء واستخدامها لم يكن رد فعل للتجريدية بغموضها واعتمادها على الذات الداخلية للفنان بقدر ما كان رغبة في التعبير الصادق بلا زيف أو رياء أو تعالى على جمهور المشاهدين.
مع بداية الثمانينات تكونت جماعة "المحور" عام 1981 من مجموعة من الفنانين, كانت تجربتهم الفنية متبلورة خلال ممارستهم الفنية منذ نهاية الستينات, وكل منهم له سماته الخاصة والمتميزة (عبد الرحمن النشار– فرغلى عبد الحفيظ –أحمد نوار– مصطفى الرزاز). ويتضح من أهداف الجماعة ما آلت اليه حركة الفن التشكيلى خلال السبعينات, من ثبات وجمود وسيطرة للأفكار التقليدية, وما طرحته الجماعة فى معرضها الثاني عام 1982 يشكل صياغة للرؤية الفنية عندهم, فأعلنوا (أننا نهدف إلى بناء عمل فني ذو هيئة جماعية موحدة, لكنه يتكون من أساليب فنية تختلف فيما بينها غاية الاختلاف, انه كيان فنى واحد نسجته مجموعة متباينة من الاتجاهات, انه دعوة للتوحد دون انصهار كامل وفقدان الفرادة) , وبهذا الاعلان يمكن أن نتلمس الرغبة فى ابداع مناهج جديدة للصياغات التشكيلية بفكر جماعي تقترب إلى مفاهيم ما بعد الحداثة.
وشهدت قاعات العرض في حقبة الثمانينات معارض فردية لكل من "فرغلى عبد الحفيظ" و"عبد السلام عيد" و"رمزي مصطفى" و "فاروق وهبه" و "عصمت داوستاشى" و "أحمد نوار" كانت بمثابة تأكيد لمفاهيم التجهيز Installation والممارسات المتنوعة لتقنية التجميع Assemblage وكان لمكانة هؤلاء الفنانين العلمية ودورهم البارز فى حركة الفن التشكيلي أثر بالغ الأهمية فى ترسيخ مفاهيم هذه الاتجاهات عند العديد من الفنانين الآخرين وخاصة الشباب.

وفى عام 1989 شهدت الحركة التشكيلية " صالون الشباب " الأول, ومع توالى دوراته سنويا, قدم الفنانون من خلاله تنوعا كبيرا لتجارب فنية أثارت حولها مشكلات نقدية للقضايا الفنية وطرحت بشكل واسع النطاق القضايا المرتبطة بالمحلية والعالمية . وعلاقة الشرق بالغرب وموقفنا من تناول هذه القضايا فى اطار "الهوية" وما استحدث لمفاهيم "ما بعد الحداثة" و "العولمة" وطرحت مصطلحاتها المتعددة والمتلاحقة منذ الستينات وتم إعادة تقييم العديد من التجارب, وفق المفاهيم التي أصبحت حديثة على اللغة النقدية في تلك الحقبة . وايضا كان "لبينالى الاسكندرية"و "بينالي القاهرة" الدولي وتوالى الدورات مساهمة كبير بشكل فعال فى مناقشة القضايا الفنية على المستوى الدولى للفنانين والنقاد والمفكرين. و تأكيد للحوار المثمر والفعال بيـن مختلف الأقطار العربية والعالمية, وشهدت قاعات العرض أحدث الاتجاهات العالمية .ولم تكن الفاعليات السابقة سوى إطار شكلي يمكن أن نتلمس من خلاله مدى التطور الحادث لتفاعل الفنانيـن المصريين مع الفنون العالمية بوضوح, من خلال النصوص النقدية الموازية لتلك الأحداث.
وخلال النصف الأول من التسعينات تم تأكيد وترسيخ مفاهيم هذا الاتجاه من خلال الممارسات التشكيلية للعديد من الفنانين وفى مقدمتهم رمزي مصطفى وفرغلي عبد الحفيظ وأحمد نوار وفاروق وهبة وغيرهم من الفنانين مما دفع جيلا من الشباب لاعتناق تلك الممارسات بمشروعة لاقت التشجيع والترحيب والمساندة على المستوى النشاطي للممارسة والعرض أما النقد فقد كان الأمر مختلفا تماما.
ومن الامثلة على ذلك ما قدمه الفنان فرغلى عبد الحفيظ عام 1993 تجهيزا, في بينالي فينسيا تحت عنوان (أبو الهول يحيى بفاروتى) في محاورة بين ثقافتين يشكلا في وجدان الفنان أثر كبير لتكوينه الفني, ورسالة تحية لكل العطاء الإنساني المخلص. موزعا عناصر ومفردات لأشياء حقيقية ترتبط بالفلكلور الشعبي كالربابة والناي لإيجاد الصلة المباشرة بالتراث .
أما على مستوى جيل الشباب فالأمر لم يكن بهذا القدر من الأحكام والقدرة على السيطرة للمفردات والأدوات التشكيلية بقدر ما كان يحمل مضامين للثورة على ما هو سائد ومألوف, ومن منطلق التجريب بحثا عن تفرد أو تميز داخل كيان الحركة التشكيلية التي كانت تضم في ذات الوقت أجيال مختلفة وكذا اتجاهات متشعبة يصعب اختراقها بالطرق التقليدية , لهذا جاءت التشكيلات في معظمها محاكاة شكلية في المقام الأول لنموذجين الأول طليعة الفنانين المصريين, والثاني الاتجاهات الفنون العالمية ومع ذلك كان أهم ما يميز تلك الأعمال هو ما حملته في طياتها من ملامح للتحدى في إجادة اللغة الخاصة بمنطق التجريب والبحث الجاد في مفرداته.
ومنذ منتصف التسعينات تبلورت بعض المفاهيم والمصطلحات المرتبطة باتجاهات ما بعد الحداثة نتيجة للنشاط التشكيلي من تجارب الفنانين بمختلف الأجيال, فجاء التلاحم والتلاقى بسرعة تفوق ما إذا قورنت بالماضي, وواجه الفنانون مرة أخرى قضايا الفن وأسئلته التي واجهت الحركة التشكيلية منذ نشأتها إنها الخصوصية التي يحياها الفنانون فيما يسمى بزمن ما بعد الحداثة Post Modernism بوصفه الزمن الذي انفتح فيه التاريخ الإنساني نتيجة لسقوط الحتمية التاريخية وتعدد دوائر الاختيار الثقافية, يشيرالناقد "جون كيسك Kissick" (ليس هناك تقصير نظري لمحاولة تفسير ظاهرة فن ما بعد الحداثة, ولكن ليس هناك قول مؤكد بنسبة مائة في المائة لمعنى مفهوم ما بعد الحداثة, وعلى الجانب الآخر فهو يعرف على أنه عهد جديد لفنون ما بعد الحداثة فهو أيضا تاريخ جديد للتفكير في العالم وليس فقط تغير في الفن.) ( 462-1996 John Kissick) كما وفرضت وقائع الثورة التكنولوجية للاتصال إيقاع زمني مختلف تحول فيه صلة الإنسان بالمكان والزمان , وإحالة الكون إلى قرية صغيرة بالفعل و قفـز خلالها عالمنا من المسموع الي المرئي مع عالم الفضائيات طارحا ما يسمي حضارة الصورة تغيرت معه العديد من القيم, وعرف ما يسمى بالكونية Globalization أو العولمة Universalism. برغم ما طرأ على تلك الفترة الزمنية من تطور في التحولات الجذرية لمختلف المفاهيم العالمية ، فالفن لم يعد أمرا جماليا ـ بمعنى أن يتصف بالفاعلية من خلال خواصه الإدراكية ـ في الطبيعة. و بالتالي فأن "الذوق" وفقا للمفهوم التقليدي يفقد دوره و يحل محله نظرية الفن التي ابتكرت حديثا، والتي يتم التفكير فيها بصورة متزايدة على أنه تتكون من الفن ذاته. وقد عبر جوزيف كوثوث عن الفكر الذي يظهر بصورة ضمنية في هذا "الإعلان" في نصه الصادر عام 1969 "الفن بعد الفلسفة": (من الضروري أن نفصل الجماليات عن الفن". و نظرا لأن الفن كان يتصف في يوم من الأيام بوظيفة زخرفية مهمة، لذا فأن " أي فرع من الفلسفة، الذي تعامل مع الجمال، ومن ثم الذوق، مرتبط بصورة حتمية مع مناقشة الفن أيضا. و قد نشأت من هذه "العادة " المفهوم القائل بأن هناك ارتباط مفاهيمي بين الفن والجماليات، ولكن ذلك ليس صحيحا) (Joseph Kossuth-1973-76) وعندما يختار الفنان أحد الأشياء فأنه يصبح فنا , وما ساد العالم في الآونة الأخيرة من نظم اتصال وتقدم , سرعان ما تم التحول والانصهار التام فى (تكنولوجيا الوسائط المتعددة وتحولت من وسيلة للتوثيق الى اداة وتقنية لممارسة مختلف العمليات الابداعية , واصبحت قاسما مشترك بين مختلف العديد من الاتجاهات الفنية المختلفة , من الفن المفاهيمى,والفن البيئى ,و فن الارض , و فن الحدث و الاداء , وفن التجهيز , و فن الفيديو والكمبيوتر .) (عماد أبو زيد 2004 - 178) ويفرض لغة ثقافية جديدة على العالم, فيشير أحد النقاد الغربيين "إدوارد سميثEdward " إلى التحولات المختلفة في القرن العشرين في قوله (شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين انهيارا في الأيدلوجيات التي كانت راسخة فلم يعد يحظى ماركس ولا فرويد بالمكانة الرفيعة التي كان يحظى بها كل من قبل, وتعرضت الماركسية لأضرار بليغة بسبب الانهيار السريع الذي حدث للشيوعية في جمهوريات شرق أوروبا, ثم في الاتحاد السوفيتي نفسه, ولم يقدم الجانب الثوري في الحكومات بديلا أيدلوجيا أو فلسفة جديدة, فلأول مرة منذ ظهور جان جاك روسو تواجه الحضارة الغربية فراغا أيدلوجيا) (Edward 1990- 531) وتبدلت التصورات الفعلية لحدود القيم التي يمكن أن تنعكس في العديد من الأوجه المختلفة الانتقائية Flitism في مقابل الشعبية Populism والعالي في مقابل المنخفض, والجاد في مقابل الهزلي, والطليعي Avan – Card أمام الزائل Kitsch والإبداع الفردي مقابل الإنتاج بالجملة وما إلى ذلك من التقابلات التي تفرض تنافسا بل صراعا.
وما يجابه الفنانون اليوم لا شك أنه يختلف عن سابقيه والأسئلة المطروحة بينهم دالة على التوتر ولا تأخذ في سبيلها إجابة حاسمة من منظور أحادى البعد أو الجانب فيما يتعلق بالقبول أو الرفض, وانما تعين طرح ما هو أبعد من ثنائية الماضي والحاضر للتفكير في المستقبل ( وبقى السؤال الذي يتعين علينا طرحه فيما يتعلق بالقواعد والمعايير التي يمكن أن تؤسس قاعدة مشروطة تتفق والسياقات الخاصة لذلك التفاعل حتى يصبح ما يقدمه شباب الفنانين أحد الحوارات الفعالة في المشاركة للفن العالمي) (عماد أبو زيد 1998 - 58)
وقد أكد على مفاهيم الرفض العديد من النقاد الرافضين لهذا الاتجاه, مضفين اليه بعض الصفات التى تنتمى الى "حركة الدادا" أو "البوب" وكانت دورات الصالون منذ 1989 أرضا خصبة للنقاد لممارسة الهجوم على هذه الاتجاهات أو القائمين على تشجيعها, وجاءت التعريفات لهذه الاتجاهات كأحد مجالات التسابق تحت مسمى "العمل الفنى المركب" واثار حول تعريفه العديد من المسميات والتى تنوعت بين اتجاهات وحركات فنية كـ( "الدادا" و"الواقعية الجديدة" و "الأوبجكت" و "الفن الفقير" و "فن التجهيزات" ), وأيضا تعريفات مستمدة مـن تلك الاتجاهات لكنها ذات صفة تهكمية(كالعبث والتخريب والعدم والخواء و..) وكان الخلط واضحا بين التفسيرات المختلفة مما يترتب عليه سوى التقبل أو الرفض. ومن امثلة ذلك (هى تركيبات لا تدخل فى باب الابداع الفنى على حد قول مبدعيها من أسباب:الفن الفقير "أرت بوفيرا" (مختار العطار 1997– 17) العرض التشكيلى الشامل فى الفراغ).(محمود بقشيش –1989) "التركيبات المجسمة"( حسن عثمان 1991) تركوا الرسم..واتجهوا للبدع ومن الغريب والغير منطقى أن تطرح وزارة الثقافة فى مصر على شباب الفنانين ممارسة الاحتجاج والسخرية من المجتمع وتعطيهم الجوائز على ذلك.(صبحى الشارونى – 1994)
اتجاهات ما بعد الحداثة بين الرفض والقبول

ومن خلال هذا السياق التاريخي السابق لقد شهدت الحركة التشكيلية المصرية توترات شديدةً بين ثنائيات عديدة مترادفات لمعنى واحد : التقليد والتجديد ، المحافظة والتحديث ، الجمود والتحرر ، الرجعية والتقدمية ، الأنا والآخر ، الداخل والخارج ، المحلي والعالمي ، القديم والجديد ، التراث والحداثة، ومنها الأصالة والمعاصرة , ما زال هذا الانقسام في الحركة التشكيلية يفرض واقع يصفه "مصطفى الرزاز" في قوله "من السهل أن نقسم الوضع الراهن في الحركة الفنية في مصر إلى تياران ظاهرين تمام الظهور, وان بذل دعاة كل تصنيف جهودا تصل إلى حد التبجح من أجل الاستئثار بالصفات التي يريدها كل فريق. (التيار الطليعي التقدمي – والتيار المحافظ).( مصطفى الرزاز 1997ـ 50) فأصبحت إشكالية الأصالة والمعاصرة إشكالية تبريرية تسويغية لكل من الفريقين أحدهما يدعي التمسك بالأصالة رفض مطلق لما يسمى بالمعاصرة وتمسك بالموروث الحضاري والثقافي والاجتماعي لمصر بحجة أنه الأصالة والذات والهوية, إيمانا باستمرار بعض السمات الحضارية عبر التاريخ الممتد. والآخر يدعي تمثيل المعاصرة , ويرى أصحابه في النموذج الغربي تجربة رائدة للإبداع والتقدم ومسايرة التحديث, والتفاعل معه يمثل مشاركة في الحضارة المعاصرة.
الاتجاه الأول:-
ويمثل أصحابه وجهة النظر الرافضة لمثل هذه الاتجاهات أو بصورة أدق لما يمثل في نظرهم العبث والسخط والخروج عن الأصول والتقاليد الفنية الأصيلة, وهذه المعايير الوصفية لم تتضمن شتى نواحي هذه الممارسات الفنية بصفة عامة, بل كان التقدير والاستحسان للأعمال التي تنتمى إلى المضامين الاجتماعية أو الأحداث السياسية والتاريخية أو الانطباعات الشخصية, وكان شرط دوام العمل يحمل صلاحية لبعضها.
ففي بداية السبعينات يعرض "بدر الدين أبو غازي" في مقال بعنوان (الفن في العالم المعاصر وموقف مصر من الاتجاهات الجديدة) يصف المعرض ( أعمال لا ينفتح لها القلب في يسر, ولا تلقاك في إيناس, وانما هي تصدم الرؤية وتهز أعصاب المشاهد, اعتمادها على الصدمة والأغراب أكثر من اعتدادها بالبناء والتناسق. هي لا تحقق إيناسا للروح ولا وئاما مع المشاعر بقدر ما تحرك في المشاهد نوعا من العراك الداخلي والحيرة الفكرية تلمحها عند الطواف بين ألواح البلاستيك الكندية التي تنتسب تعسفا إلى فن النحت, والتي وضعت من أجل أن يعبرها المشاهد فيلمح تغير تشكله في مرآة هذه الألواح تبعا لتنوع ألوانها) ( بدر الدين أبو غازي – 1973 ) ويكشف عن رأيه في تحديد موقفنا من الاتجاهات المعاصرة ( لكي نصل إلى الغرب يجب تقليده.. هذا فكر ساذج يجرد الفنان بمعناه الواسع من فضائله, وانما لكي نصل إلى العالمية ينبغى أن نقدم فنا صادقا راسخ القيم يستمد تطوره من واقعنا ومن مثاليات مجتمعنا.) ( بدر الدين أبو غازي – 1973 ) وهذا الرأي يمثل وجهة نظر عديد من النقاد استمرت خلال الكتابات النقدية على نحو متنوع في التناول ولا يختلف في جوهره.
وبرغم ذلك لم يغفل هؤلاء النقاد قدر وأهمية الفنون الغربية, ويتضح ذلك في قول "محمود بقشيش" بعنوان (نحو جمالية عربية مغايرة) , (هل نقاطع نحـن الفنانين هذا النموذج الـ "أوروأمريكى" ؟ لا أعتقد أنه من الحكمة أن نفعل ذلك وإلا حكمنا على أنفسنا بالعزلة التي لا تعنى في زماننا غير الموت) . ادن: هل نتبعه صاغرين, مسلمين بأمر تفوقه, أم ننظر إليه نظرة ناقدة /دارسة / متحررة من عقدة التخلف, واثقة بأن لديها من الميراث الحضاري ما يستحق أن تشكل به حضورا إنسانيا فعالا, إنني ممن يرون أن منجزات الغرب هي في الأساس منجزات إنسانية, ومن ثم تستحق منا تناولا موضوعيا ناقدا لا تناول الناقد المستضعف).(محمود بقشيش – 1999) وهذا الرأي لا يختلف عليه كلا من التيارين الا أن تناوله على الجانب العملي كان يشكل الاختلاف. وهذا التيار النقدي له سلطة وذيوع في الانتشار من خلال وسائل الاتصال الجماهيرية المختلفة تفوق التيار الآخر, برغم ذلك فان الاستجابات في الحركة التشكيلية لممارسة الاتجاهات (لما بعد الحداثة) لا يمكن إغفالها وتمثل ثقلا حقيقيا في واقع الحركة التشكيلية بمصر, ويبرر معظم النقاد الرافض لمثل هذه الاتجاهات سبب هذا الانجذاب نتيجة التشجيع من قبل القيادات الثقافية بمصر من جانب والقيمة المادية للجوائز من جانب آخر, أو الهروب من المجالات الفنية (النحت والتصوير و….) التي تتطلب الدراسة أو المهارة.
الاتجاه الثاني
ويمثله فريق من الفنانين والنقاد يميل إلى مواكبة الفنون العالمية وفتح المجال أمام الرؤى الإبداعية في سبيل مشاركة إيجابية لحركة الفن العالمي من خلال الحوار والتفاعل بين الثقافات المختلفة, ويتسم أصحابه بالوعي الثقافي للمفاهيم والاتجاهات المعاصرة العالمية, مما أكسبهم الثقة في تناول الممارسات الفنية دون العبء بالتأويل اللفظي لمعاني لغوية تنتمى لحقل آخر غير اللغة البصرية متجاوزين تلك اللغة إلى نطاق الفكر, ولم يكن ذلك منفصلا عن اتجاهات تزامنت مع حركة الفن العالمي, نظرا للتطور الهائل في وسائل الاتصال وما طرحه من فكرة "العولمة" أو القرية الكونية.
وقد كان لفوز مصر في بينالي فينيسا 1995 بمثابة توثيق لمصداقية المحاولات الجادة من جانب هذا التيار (أن العمل تجمعت فيه المفاهيم الحديثة والمعاصرة لشباب واكب بإبداعاته الحركة الفنية العالمية .. متفوقين عليها بما يحمله الإنسان المصري المبدع من تراث عريق وفكر وخيال خصب وأحلام مستقبلية عريضة).( محمد طه حسين – 1995 – 5)
وقدم الناقد الفنان "محسن عطية" تحت عنوان (فن الحداثة – فن ما قبل الحداثة – فن ما بعد الحداثة) ويحدد لغة فنان ما بعد الحداثة ويؤكد أن( فنون "ما بعد الحداثة" تمثل حقبة ما بعد زوال الهيمنة الغربية بنزعتها الفردية, وحيث احتلت الثقافات اللاغربية مكانتها في العالم, وازداد الاتجاه ناحية التعددية الثقافية والثقافات العالمية المتنوعة.) (محسن عطية – 1997)
وتشكل هذه المعايير إطارا عاما لسمات المرحلة الزمنية المعاصرة يتضح من خلالها التبادل الثقافي بين أطراف العالم المختلفة دون الامتثال لمركزية أحادية, مما يكسب شرعية للممارسة الجادة لاتجاهات الفنون المابعد الحداثية.
وقد أكد هذا التيار على "التحديث" بمفهوم الجديد وكسر القوالب الجامدة بإطلاق العنان للإبداع والحرية بمفاهيم ترتبط بإيقاع العصر الحديث, وكان التجريب أحد العوامل الهامة التي تلقى اهتماما من قبل هذا التيار, غير أنه كثيرا ما وجه له اعتراضات متعددة كان أبرزها تحت مظلة (الهوية أو الشخصية المصرية أوالأصالة والمعاصرة) مما دعا العديد من النقاد إلى الخوض في معارك دفاعية أحيانا وهجومية على التيار الآخر أحيانا أخرى.
ففي مقال للناقد "أحمد فؤاد سليم" يشير في دفاعه عن التحديث (على أن أولئك الكتبة يعتبرون أن كل ما هو "حديث ما هو إلا نسيج شيطاني, لأنه في نظرهم بالضرورة, يمثل تبعية تكاد تكون استعمارية المغزى للغرب, ومادام هو كذلك, فهذا الحديث هو بالتالي عدواني وخياني وغير وطني, وبالتالي من الفقد الكلى للهوية, وضياع "للتابلوه" المعبود, أي "الأصالة") (أحمد فؤاد سليم – 1995 ) موضحا أن التغريب كمصطلح استخدم كأحد الاتهامات لفنون الحداثة وما بعد الحداثة, في الكتابات النقدية المعادية لمثل هذه المناهج, والتي تعد نوعا من أنواع التدفق "الاستعماري" وتكون القطيعة "للفن الحديث" ونفى "ما بعد الحديث".
النتائج وتحليلها
1- اختلف موقف الفنانين والنقاد من الفنون المحلية والعالمية , واتضح ذلك جليا فى الدفاع عن "الهوية" التى أخذت في فترات زمنية أبعاد مختلفة بداية من ارتباطها بالقومية والدفاع عن الخصوصية تجاه المستعمر حتى نهاية الخمسينات, وكانت الدعوة للشخصية المصرية أحد مرادفات ومقومات البحث عن الهوية , وما أن طرحت الثورة المفاهيم الاشتراكية وأخذ المد الثوري في التصاعد حتى منتصف الستينات شكل المشروع القومي المناخ المناسب لنمو المفاهيم المرتبطة بالقومية والشخصية المصرية, وتنامي مفهوم الأصالة والمعاصرة خلال السبعينات والثمانينات كمعادل للصراع بين الشرق والغرب, وفى التسعينات ومع انتشار مفاهيم العولمة والتطور السريع في وسائل الاتصال عرف العالم مصطلح "القرية الكونية" وكان مفهوم "الهوية" هو آلية الدفاع عن الخصوصية.
2- يسود المنهج "التوفيقى" بين التيارين السابقين, ويعد الأكثر شيوعا حتى في بعض كتابات كلا من التيارين السابقين عليه, فبدت الكتابات وكأن صاحبها يدعو للانفتاح على العالم بعقله, وقلبه مرتبطا بالماضي. مما أثير من الخلط بين التجديد والمحافظة, والتقدم والرجعية. فمنذ بداية الستينات أصبحت المفاهيم المرتبطة بالفن الحديث بدءا من الكلاسيكية الجديدة والواقعية والتأثيرية وما بعد التأثيرية والوحشية والتعبيرية والتكعيبية إلى السريالية, أمكن تأويلها بل واعدادها في مثابة المعادل الشكلى للموروث الحضاري بمصر, وكان ذلك مشروطا بالموضوعات أو الرموز التي يتناولها الفنانون في أعمالهم, ودار الصراع على نطاق آخر مثلته الفنون التجريدية واخذ النقاد المعادين لهذا النوع من الفن نفس آلية الدفاع السابقة عن الأصول والتقاليد التي أصبحت آنذاك (سريالية وتكعيبية وتعبيرية و..).
أما في التسعينات فقد أصبحت الاتجاهات "الما بعد حداثية" بدءا من المفاهيم المرتبطة (بفن البوب والتجميع والحدث والأداء والفن المفاهيمى والفن البيئي وفن الأرض والفن الفقير وفن المينمال وفن التجهيز وفن الفيديو) جميعها فنون تحمل مضامين عبثية وأفكار هدامة وثورية وتهكمية "كالدادا" , و"البوب" وليس لها صفة الدوام والاقتناء "كالفن الفقير", و"الفنون البيئية والارض" , و"فنون الحدث والاداء".
3- غياب مفهوم واضح للقصـد النقدى سوى التقبل أو الرفض ليكشف عن اختلاف زمنى بين حركات الفن واتجاهاته العالمية وانعكاسها في الحركة التشكيلية بمصر دون تتابع زمني قياسا بالفنون العالمية , مما أشاع اختلافات مرتبكة في النقد الفنى ومناهجه وآلياته التي باتت غير صالحة للتعامل مع الواقع الجديد على حركة الفن بمصر.
التوصيات
تجاوز إشكالية المحلية والعالمية من خلال تفكيك جذورها ونقض مسلماتها. ولا يكون بإزالة التناقض بين المفهومين وجمعهما معاً في تكامل تركيبي , بل ينبغي ان تنتفي العلاقة الثنائية بين الأصالة والمعاصرة ويصبحان وجهان لحقيقة واحدة , بالتخلى عن نظرة التحدي للفنون العالمية وكذا نظرة التعالي والفخر لما نملكه من تراث حضاري, للوصول إلى حقيقة موضوعية بالكشف عن معايير للقيم المصرية التي تميز فرادة الفنانين المصريين, ومدى إسهامهم في حركة الفن العالمية بالمشاركة الفعالة , ينبغي دوما توسيع النطاق من خلال التفاعل مع الآخر ومع الذات ومع مختلف معطيات العصر, وذلك لتأكيد الهوية في إطار النظام العالمي الجديد وما يعرف "بالعو لمة".
المراجع العربية

  1. أحمد فؤاد سليــم :1971,الوجه الإنساني عند سيف وانلى, مارس, مجلة الهلال
  2. بدر الدين أبوغازى:1973, الفن في عالمنا, عالم الكتب, القاهرة.
  3. بدر الدين أبوغازى:1965,محمود سعيد فنان الشواطئ البيضاء ,يناير,مجلة الهلال.
  4. حسن عثمان:1991,الصالون الثالث للشباب, جريدة الجمهورية,26يونيو.
  5. حسين بيكار:1999, مقالات نقدية فى الفن, الهيئة العامة لقصور الثقافة.
  6. رمسيس يونان:1969,دراسات فى الفن,دار الكتاب العربى للطباعة والفن.
  7. سمير غريب:1986,السريالية فى مصر,الهيئة العامة المصرية للكتاب,القاهرة.
  8. صبحى الشارونى:1994,الفنانون الشباب فى مصر من خلال معارض الصاون السنوى الخمس,وزارة الثقافة,المركز القومى للفنون التشكيلية.
  9. عماد أبو زيد:1998,صالون الشباب والعمل الفنى المركب,حوارات من داخل صالون الشباب إعداد فاطمة إسماعيل,المركز القومى للفنون التشكيلية.
  10. عماد أبو زيد: 2004 ,الوسائط المتعددة فى فنون ما بعد الحداثة وتغير المفاهيم الجمالية, مجلة بحوث فى التربية الفنية والفنون, المجلد الثالث عشر , كلية التربية الفنية جامعة حلوان.
  11. محسن عطية:1996,غاية الفن دراسة فلسفية ونقدية, دار المعارف بمصر.
  12. محسن عطية:1997,الندوة الدولية الموازية لبينالى القاهرة الدولى السادس,المركز القومى للفنون التشكيلية.
  13. محمد طه حسيـن:1995,بين الصالون السادس للشباب فى القاهرة والجائزة الكبرى فى فينيسيا, مجلة فنون تشكيلية المجلس الأعلى للثقافة.
  14. محمود بقشيش:1989,مواهب جديدة فى صالون الشباب الأول, سبتمبر,الهلال.
  15. محمود بقشيش:1999,نحو جمالية عربية مغايرة,مجلة الهلال.
  16. مختار العطار:1997,رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر ,الجزء الثاني,الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  17. مصطفـى الرزاز: 1997, الندوة الدولية الموازية لبينالى القاهرة الدولى السادس,المركز القومى للفنون التشكيلية
  18. مصطفى محمد مهدى:1978,التصوير التشخيصى المصري منذ عام 1950 والإفادة بها في دراسة التذوق الفني بالتعليم العام ,رسالة دكتوراه غير منشورة, كلية التربية الفنية,جامعة حلوان.

المراجع باللغة الاجنبية


Edward L-Smith; 1980, Art in the seventies, First puplished, Phaidon Oxford.

John Kissick; 1996,Art con**** and Criticism,Second Edition,Brown benchmark,newyork

Joseph Kossuth;1973, Art After Philosophy I, Studio International (October 1969), in Idea Art, ed. Gregory Batt-cock ,New York, Dutton.


[1] عماد أبوزيد :حركة الفن المصرى المعاصر بين المحلية والعالمية المؤتمر، الدولي الثاني لجامعة المنيا، ج.م.ع "الحوار العربي - الغربي: اختلاف أم خلاف إلى وفاق؟، 29-31 مارس 2010 "ص 329