موضوع اعجبنى:
عن مجلة التشكيلى

عرض: نيللى كمال محمد *

عرض لكتاب عز الدين نجيب، فجر التصوير المصرى الحديث، (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب 2000.

غطت فصول الكتاب الخمسة الذى اتخذ "بورتريه" للفنان محمود سعيد غلافاً له، الحركة الفنية فى مصر، متطلعاً إلى إعادة اكتشاف بعض الرؤى الأبداعية التى حققها رواد تلك الحركة وذلك بالرجوع إلى أصولها وجذورها.

وقد انقسم الكتاب إلى قسمين كبيرين، أما الأول،خمسة فصول، فهو شرح وتحليل وتناول لتاريخ الحركة الفنية فى مصر ومراحلها، وأما الثانى فهو عبارة عن الاستشهاد بخمس وسبعين لوحة من لوحات الفنانين المصريين، أمثال، أحمد صبرى، ومحمد حسن، ويوسف كامل، راغب عياد، ومحمود سعيد، ومحمد ناجى، وصلاح طاهر، وتحية حليم، وجاذبية سرى، وسيف وانلى، وأدهم وانلى، ويويف سيد، وغيرهم.

يتناول الفصل الأول الفترة من عهد الخليفة العثمانى سليم الأول وتحديداً منذ سنة 1517 وحتى قدوم الحملة الفرنسية على مصر أى عام 1798، ويتخطاها، وقد أطلق المؤلف على الحركة الفنية فى مصر فى تلك المرحلة الزمنية "ومضات فى الظلام"، والتى قسمها إلى أربعة أقسام رئيسة كالتالى:

"أهل الكهف": فيرى أنه عهد الخليفة العثمانى سليم الاول أى عام 1517 اقتلعت صفوة العلماء والفنانين المصريين وتم نقلهم إلى اسطنبول كغنائم حرب، ويذكر أن عددهم كان ألفا وثمانمائة، وأدى ذلك إلى أن تدهورت فنون النسيج، والتطريز، ونقوش النحاس، وخرط الخشب للمشربيات والمنابر، وزخارف الرخام الملون، والخط العربى، وزجاج النوافذ المعشق بالجص، والمشكاوات، والميناء، والفسيفساء، كما اختفى فن التصوير الجدارى والذى عرف فى العصر المملوكى.
ويتبع تلك الفترة ما أطلق عليه "عصر الدهشة"، وهو ذلك العصر الذى بدأ مع 1798، أى مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر، وفيها يصف مصر بأنها "اهتزت مع أركان الكهف السحيق مسلمات وقناعات، على بريق الاختراعات العلمية ورياح العصر التى حملتها معها الحملة الفرنسية"، وأدى ذلك إلى إطلاق قدرات المصريين على الخلق، أو على الأقل وسعت أمامهم آفاق الخيال، وتواكب معه إرسال محمد على البعثات إلى أوروبا للتخصص فى تكنولوجيا الحرب والزراعة وعلوم الهندسة والطب.

أما المرحلة الثالثة، فكانت "تخليص الابريز"، وذلك إشارة إلى كتاب رفاعة رافع الطهطاوى، "تخليص الابريز فى تلخيص باريز"، وما كتب فيه عن معالم الثقافة الفرنسية خاصة عن معاهد العلم، والصناعات كما يغرى المصريين بالسير على منوالها. أما ما يتعلق بالحركة الفنية فى هذا الصدد، فقد وجدت بعض الصعوبة، فبالرغم من تضمن البعثات الأولى لبعض الدراسين للرسم، وبالرغم من إستجلاب محمد على وأسرته للرسامين والنحاتين من أوروبا، إلا أن الأمر استغرق نصف قرن كامل لخروج جيلاً من المفكرين الذى يتبنى الدعوة إلى الاهتمام بالفنون الجميلة، كان على رأس ذلك الجيل محمد عبده، وقاسم أمين، ولطفى السيد، ثم تخرج الدفعة الأولى من مدرسة الفنون الجميلة سنة 1911.

تبع مرحلة "تخليص الابريز"، مرحلة "الفن المستجلب"، وقد شهدت تلك الفترة، من محمد على إلى عصر الخديوى إسماعيل، ظهور "الارستقراطية الجديدة"، وكانت تستهلك نوعاً من الفن ساد قصورها، كما كان لها ذوقها الجمالى الغريب على الذوق المصرى فى العمارة، والزخرفة، والنقش، والأثاث، والمفروشات، وكان غالباً من طراز خليط من ذيول الأنماط البيزنطية، والباروكية الايطالية، والروكوكو الفرنسى، قام بتنفيذها عمال من اليونان وأرمينيا، وإيطاليا، وفرنسا بدعوة من الحكام. ومن ذلك مسجد محمد على بالقلعة بالقاهرة، فكان مثلاً على التأثر البيزنطى.

وفى الفصل الثانى، "عشية ميلاد الفنان المصرى"، ويرى المؤلف أنه مع انتهاء الثورة العرابية ظهرت دعاوى تهتم بالفنون الجميلة لأول مرة فى تاريخ مصر الحديث، على يد، محمد عبده، قاسم أمين، لطفى السيد، وغيرهم.

وفى هذا الإطار نجد عام 1891 تحمل دلالة هامة فى تاريخ الحركة الفنية فى مصر وذلك لسببين:

الأول، ميلاد رائدين من رواد الفن فى مصر الحديث ذلك العام وهما، محمود مختار، ويوسف كامل. الثانى، إقامة أول معرض فى مصر (أو أول صالون للفن) افتتحه فى دار الأوبرا الخديوى إسماعيل، شاركه فى ذلك رسامين أوروبيين مثل، بوجدانوف الروسى، راسنجى، وراللى. وقد أقام بذلك حركة فنية أجنبية على أرض مصر بعيداً على البلاط وأجنحة القصور وبتفاعل مع المجتمع وباحتواء المصريين فى داخل هذا التيار. وفى الوقت نفسه، وكما يرى المؤلف انعكس ذلك على دخول الحركة الفنية فى "طريق الغرب الطويل" الذى لم تخرج منه طوال تاريخها، بالرغم من أية محاولات مضنية قام بها جيل الرواد ومن تبعهم للخروج منه أو تحويل مساره إلى بلدهم تحت تأثير الحركة القومية والوطنية.

ومع إنشاء مدرسة الفنون الجميلة فى سنة 1908، وتخرج الدفعة الاولى منها سنة 1911، مرت الثقافة المصرية بحالة من الازدواجية بين تيار يولى وجهته للغرب تبنته الارستقراطية القادرة على اقتناء الفن، وتيار يولى وجهته للوطن والتراث تبنته الطبقة التى لا تقدر على اقتناء الفن. ثم ظهر تيار ثالث تسيد الحركة الثقافية، وهو يدعو للثقافة الانسانية الشاملة والتقريب ما بين التيارين.

أما الفصل الثالث "طريق الغرب الطويل"، فقد عكف على تناول هؤلاء الفنانين المصريين الذين درسوا وتألقوا فى الغرب، ومدى تأثرهم بتلك الثقافة الغربية. فقد حصل محمود مختار على الميدالية الذهبية عن "نهضة مصر". وقد مثل مختار نداءاً مستمراً لبقية زملائه، للدراسة فى أوروبا، أمثال أحمد صبرى، ويوسف كامل، وراغب عياد، محمد ناجى، ومحمود سعيد. حيث يستعرض الفصل حياتهم وانجازاتهم الفنية. وبعد عودة هؤلاء الفنانون لمصر، وجدوا أرضاً مهيأة لما ألفوه هناك من نزوع الفن إلى الحياة العامة، فبقى عياد وفياً للحياة الشعبية بمفاهيمها وأسواقها وفلاحيها وموالدها. وبقى يوسف كامل شغوفاً بمناظر الحياة الريفية والأحياء الشعبية، بآثارها وزحامها وباعتها وفلاحيه، والتزم صبرى بجو المنزل البسيط. واحتضن محمود سعيد بعينه مظاهر البيئة الشعبية والريفية فى مناظر بانورامية، كما استمر ناجى يوائم ما بين الموضوع الريفى، والموضوع التاريخى محاولاً البحث به عن جذور الشعب المصرى.

وفى الفصل الرابع، "الشخصية المصرية"، بحث المؤلف عن ثنايا تلك الشخصية وملامحها، حيث بدأ وعى جاد وقوى بالذات المصرية منذ عهد رفاعة الطهطاوى، تأثر فى ذلك بما رأه من شغف فرنسى بالآثار المصرية.

وفى هذا الفصل اهتم المؤلف بكيفية تأثر بعض الفنانين المصريين بالذات المصرية، مثل محمد ناجى، وراغب عياد، ومحمود سعيد، ويوسف كامل.

فمحمد ناجى، على سبيل المثال، ظل إلى نهاية حياته مشدوداً بعاطفته الوطنية الجياشة نحو أمجاد مصر التاريخية وقيمها الحضارية والجمالية، فلوحته "أمومة"، التى يبدو فيها الطفل الذى تحمله الأم على ظهرها جزءاً ملتحماً بها ككتلة نحتية، ووجه المرأة البنى كوجوه مصر القديمة. ولوحته "إيزيس وأوزوريس" كان فيها للموضوع القومى الممتد الأهمية القصوى.

وإن كان المؤلف يرى، أن طموح ناجى الفنان ببناء صرح للفن القومى، كان يتجاوز قدرات فنان واحد، وكان يتطلب مشاركة فعالة من جيل أو أجيال من الفنانين، ويبقى الفضل لناجى فى الريادة فى اكتشاف الدروب الصعبة، وفتح النوافذ على الآفاق البعيدة التى ساعدت على تجديد الهواء الراكد، ومهدت لجيل جديد من الفنانين الثوار.

وفى الفصل الأخير من الكتاب، أوضح المؤلف مرحلة "جيل التمرد"، والذى ظهر مع نهاية الثلاثينيات. وهذا الجيل له رواده، من حامد يد، صلاح طاهر، سيف وانلى، حسين بيكار، عبد الهادى الجزار، رمسيس يونان. حيث بعد مرحلة شهدت التكرار وتوقف التطوير. وربما كان هذا التجمد راجعاً إلى المناخ السياسى والاجتماعى الذى ساد مصر بعد توقيع معاهدة 1936، ومع انكماش النزعة القومية فى الفكر والفن. وعندما جاءت الحرب العالمية الثانية، نضج معها جيل جديد من الساسة والمفكرين والمبدعين، وجذبت تلك البيئة عدداً من الأدباء والفنانين الأوروبيين، يعيشون فى مصر ساهموا فى تهيئة الأرض للتحول الكبير فى مجال الفكر والإبداع كما ارتبطوا بنظائرهم من المصريين.

وتعتبر جماعة "الفن والحرية" التى نشأت سنة 1939 (على يد جورج حنين، ورمسيس يونان، وكامل التلمسانى، وفؤاد كامل، ومجموعة أخرى من الفنانين، بلغوا سبعة وثلاثين فناناً) أول نبتات هذا التفاعل، فكان واضحاً من بياناتها ومقالاتها ومنشوراتها المتتالية والمتعاقبة، أن قضية التمرد والثورة التى تكمن فى نفوس أعضائها كانت أكبر بكثير من قضية الفن والثقافة، فكانت ثورتهم تمتد على مساحة عريضة من الفن إلى الأخلاق،

ومن الفلسفة إلى السياسة.

"إن صورى مهما كبر أو ضؤل حجمها: عشق وعجب ومغامرة، أتخطى بها عالم المرئيات، وأفصل مادة الفن عن صورته، كيما أقيم فوقها الشكل المطلق، استكشف به عالم المجهول، يتراءى لى وأنا أول من أدهش له عندما أخلع نقاب الزركشة والوعى وأحطم اليقين الرياضى والبناء الهندسى، أجد نفسى واجماً أمام قدر متربص وكون صامت، لكى أقترب من سراديب مطمورة كائنة فى الأغوار البعيدة، من قوى طاردة عاملة على التشعب والتناثر، ذلك الصراع بين الذات الحرة والعالم الخارجى يتولد من نسيج لوحاتى، نسيج النفس، نسيج المجرات والفضاء المزدهر بالنجوم . . . ." تلك كانت كلمات فؤاد كامل، أحد رواد جيل التمرد، الذى أختتمت به المرحلة الزمنية التى تناولها عز الدين نجيب فى كتابه، فجر التصوير المصرى الحديث، متناولاً تطور الحركة الفنية فى مصر منذ القرن السادس عشر وحتى جيل التمرد منتصف القرن العشرين.