الحداثة والمفردة التشكيلية
بقلم الفنان/ سعيد القطان

تحمل لنا اتجاهات الحداثة الفنية بين طياتها ثورات هائلة ومحاولات مستمرة تنم عن روح التجديد فى مواكبة العصر الذى نعيشه ، حيث تنوعت أساليب الأداء والمضمون والخامات المستخدمة فى تشكيل العمل الفنى مما أدى بالفنان المعاصر البحث وراء الخامة لمواكبة ركب التطور والاستلهام من التراث والبيئة كمصادر للرؤى والاتجاهات الحديثة ؛ فاصبح لكل اتجاه فنى مصادر للرؤية وارتباط بالجذور ، فالاتجاهات الفنية الحديثة للصورة المرئية تتجه إلى الاستلهام من التراث القومي والشعبى ، ومن فنون الحضارات القديمة كمصادر الهام للفنانين فى مستهل هذا القرن على ضوء النظريات الحديثة ، التي ألهمت بدورها قادة الفن ولفتت أنظارهم إلى مبادئ واتجاهات فنية ذات مذاهب متعددة علمية وفلسفية تتخذ فى الأداء طابع البداءه والفطرة وفنون التراث والعالم القديم ؛ فمنها الفنون السحرية ثم التصوفية الدينية وما يتبعها من الطوطمية ؛ فرؤيا الفنان للواقع من حوله اختلفت باختلاف الواقع ذاته ؛ فيؤكد ذلك قول الناقد (هيرمان بهر) H. Boher : إن تاريخ التصوير لا يعد شيئاً ولكن تغير الرؤية هو الأهم ، إن أسلوب التنفيذ تغير فقط عندما تغيرت الرؤيا ، انه تغير ليحافظ على متغيرات الرؤيا كما هى ، وغيرت العين طريقها فى الرؤية تبعاً لعلاقة الإنسان بالعالم ، أن الإنسان يرى العالم تبعاً لاتجاهاته نحوه .

ولذا كان اهتمام فناني الحداثة متجها نحو رؤية إبتكارية تقدمية تثير انتباه المشاهدين من حيث غرابتها فى التكوين والتشكيل تبعاً لما استلهموه من تلك الأساليب البدائية القديمة ، ويذكر فى هذا الصدد مثالاً لأحد هذه المفردات أو الرموز الهامة لدى إحدى القبائل البدائية ، والتى قد استلهم منها معظم فنانى الاتجاهات الحديثة أعمالهم ، وبخاصة فناني التجريدية التعبيرية ، خاصة (جاكسون بولوك) Jackson Pollck ، ذلك الرمز هو ما يسمى بـ (الطوطم) ، وهو يمثل صورة أو تمثال لمفردةٍ حيوانية أو نباتية ترمز إلى قبيلة ما من القبائل البدائية . " إذ يكون بمثابة شعار لها تعرف به بين سواها من القبائل الأخرى ، كما سميت هذه المفردات بـ (الطوطمية الرمزية) لدى قبائل في شمال أمريكا وتدعى (الجونكين) ، بينما كان المعنى الذي يلتصق بهذا الطوطم لديهم يتمثل في الصديق أو المعين الذى يملك قوى فوق قوى الطبيعة ، حيث كانت الشعوب البدائية وثيقة الصلة في حياتها بالطبيعة ، وان طبيعتهم البشرية لا تنفصل عن ذلك العالم الحيوانى.

كما اصبح الفن فى هذا العصر يتعامل مع المدركات الحسية للإنسان (الغرائز ـ اللمس ـ الحركة ـ السمع ـ الشم) ، ويبعد كل البعد عن المدركات الشكلية والحسابات الذهنية العقلية الباردة ، وبذلك بدأت القيم الحقيقة التي تنطوى عليها شتى الثقافات الماضية تكشف عن موقفها من الفن المعاصر ، وأصبح بوسع الفنان أن يتأمل الرسوم المنقوشة علي كهوف (لاسكو) أو تمثال (زوسر) أو (رأس نسر) من المكسيك ، أو قناعا من غينيا الجديدة ، أو التماثيل الضخمة الهائلة بمغاور (القانتا) فى الهند ، أو شبيهاتها بمغاور (يون كانج) في الصين ، لا علي اعتبار أنها أثرية قديمة ترجع إلى عصر ، أو حضارة بعينها ، وإنما علي أنها آيات فنية حاضرة ينفعل بها الفنان ، ويستجيب لها استجابة مباشرة ، كما يرى الباحث أن هذه التصورات والرؤى إن كانت الخرافة مصدرها ، إلا أنها كانت بالنسبة للاتجاهات الفنية الحديثة على جانب كبير من الأهمية ، فيما بدا من مظاهر تمثلت فى أعمالهم الفنية المستلهمة من طبيعة المفردات الطوطمية والسحرية والتى كانت شائعة فيما قبل التاريخ ، واصطلح عليه عند الفنانين بـ (الصوفية البدائية) فى الفن .