ثانياً: فلسفة النقد الجمالية
يقوم كل علم على فلسفة خاصة به تشمل منطلقاته الفكرية وأهدافه وخطوط عمله الكبرى. وفي مجال نقد الفنون يكون لكل ناقد فلسفته الخاصة بشكل واعٍ أو غير واعٍ. وتحدد هذه الفلسفة رؤيته وممارسته. وقد شاعت الكثير من النظريات الجمالية وبرز البعض منها أكثر من غيرها، وفيما يلي يفصل البحث أهم هذه النظريات وهي:
النظرية الواقعية (المحاكاة) Realism ، النظرية الشكلية Formalism ، النظرية الضمنية (المضمون) *******.
يهتم النقد الفني بالحكم الجمالي على الأعمال الفنية، فهو يتوقف عند العناصر والأسس التي تجعل من العمل الفني، عملا يمكن تذوقه جمالياً. وتمهد النظريات الجمالية الطريق لفهم ما وراء الحكم الجمالي. حيث يقوم الباحث بتحليل عينة من مقالات النقد الفني للتحقق من استخدام النقاد لتلك النظريات والمفاهيم الفنية في كتاباتهم عند تحليلهم للأعمال الفنية. ويهتم النقد الفني المعاصر بتحليل الأعمال الفنية من خلال هذه النظريات ويركز على عدة محاور: المحور الأول: يضم عناصر العمل الفني المرئية، والأسس التي استخدمت في بنائها. والمحور الثاني: يركز على العلاقات بين عناصر العمل الفني والتي تجعل منه شكلاً ينتمي إلى أحد أنواع الفنون. أما المحور الثالث فيهتم بالأساليب الفنية، ومقاصد الفنان، والأصالة في الإنتاج، والقدرة في استخدام الأدوات الفنية والاستفادة من الخامات المتنوعة لإنتاج الأعمال الفنية. (مجاهد 1997، ص19) وفيما يلي عرض لتطور هذه النظريات:
1- النظرية الواقعية أو (نظرية المحاكاة):
لقد تكونت بذور نظرية المحاكاة من خلال الفلسفات الكلاسيكية للفن، وكانت النظرية الكلاسيكية في النقد الفني أو النظرية الواقعية أو نظرية المحاكاة، تجيب بطريقة ما عن التساؤل القائل (ما هو الفن الجميل؟)، فكانت هذه النظرية كما تقول ستولينتز (1982) تعتبر بأن الفن هو محاكاة ونقل لأشياء من الطبيعة، وتعتبر أن الفن الجميل هو "الترديد الحرفي الأمين لموضوعات التجربة المعتادة وحوادثها."، وأن موضوع العمل الفني يجب أن يشبه النموذج الموجود في الحقيقة. فالعمل الفني يحاكي صورته ويماثله. (ص156) ويركز النقد القائم على هذه النظرية، على واقعية العمل الفني وظاهريته أي إمكانية إدراك ظواهره.
وتقوم نظرية المحاكاة (الواقعية) على الفلسفة الإغريقية القديمة عند أفلاطون وأرسطو، فقد مثلت الأفكار الإغريقية مثالاً نموذجياً للفن، وكان لها أثرها وسطوتها في الفن الهلينستي والروماني وفنون عصر النهضة الأوروبية وفي القرن التاسع عشر عند ظهور الكلاسيكية الجديدة والرومانتيكية والواقعية، وفي فنون ما بعد الحداثة. حيث كانت هذه النظرية تملي قواعدها على الفنانين. فظل النقد يعتمد على هذه النظرية حتى لفترات طويلة من الزمن رغم تعدد وتنوع الاتجاهات الفنية. (Gill 1999, P.19)
وما زالت هذه النظرية تؤثر في النقد الفني المعاصر، ولكن لا يتعامل كثير من النقاد معها من منطلق أنها تعكس جمالاً فنياً، بل من منطلق المهارة الحرفية والقدرة على المحاكاة الدقيقة حيث أن أفلاطون نفسه لم يكن متعاطفاً مع فكرة المحاكاة بل اعتبرها تزييفاً للطبيعة والحقيقة، وتساءل في جمهوريته "هل الرسم محاولة لمحاكاة ما هو حقيقي كما هو أم المظهر كما يظهر؟". وقد أكد على أن المحاكاة المستنيرة لا بد وأن تكون في حقيقة الأشياء وجوهرها لا في مظهرها. أما أرسطو فقد اعتبر المحاكاة عملية خلاقة ومعبرة عن الكلي، ويقصد بالكلي التعبير عن السلوك أو نمط معين ليعكس سلوكيات وأنماط أخرى. (ستولينتز 1982، ص156) ويعتبر أرسطو أن المحاكاة يجب أن تكون لما هو جوهري في الطبيعة، ويمكن للفنان أن يصل إلى هذه المحاكاة من ثلاثة نواح: 1- الوسيلة أو الأدوات التي يستعملها الفنان. 2- الموضوع وهو إما أن يكون للشيء كما هو عليه أو أفضل مما هو عليه أو أسوأ مما هو عليه. 3- الطريقة وهو الأسلوب الفني الخاص بالفنان. (مجاهد 1979، ص58)
ويعتمد النقد الفني في النظرية الواقعية (نظرية المحاكاة) على النقد بواسطة القواعد وهو أحد اتجاهات النقد التي سوف يأتي تفصيلها في الفصل التالي، وهي متأثرة في إصدار أحكامها بالقواعد الكلاسيكية. ويعتبر النقاد الكلاسيكيون أن قواعد الفن تتمثل في أعمال الفنون الإغريقية والرومانية القديمة وفنون عصر النهضة. ويستند حكمهم على دراسة المنظور والنسب في الأجسام الحية وفي التكوين الكلي للعمل الفني، والمحاكاة الواقعية الصادقة للتعبير عن الانفعالات سواء أكانت واقعية أو رومانسية أو خيالية أو رمزية. (عطية 1996، ص179)
2- النظرية الشكلية:
كانت نظرية المحاكاة تركز على الدقة في استخدام الألوان والعلاقات والخطوط وكان ذلك يمثل جذور للنظرية الشكلية، إلا أن بداية ظهورها كمبدأ مستقل في نقد الأعمال الفنية، كان في بريطانيا في أوائل القرن العشرين. لقد برزت كتابات كل من روجر فراي Roger Fry (1866-1934) وكليف بل Clive Bell (1881-1964) في التأسيس لهذه النظرية. لقد درس فراي لوحات كثير من الفنانين الإيطاليين وكتب عن أعمال سيزان وفان جوخ وماتيس، وكان هو أول من أطلق على اتجاههم مسمى ما بعد الانطباعية Post impressionism، ثم استخدم هذا المصطلح كثير من النقاد فيما بعد. لقد تحدث فراي في نظريته الشكلية عن الفن التشكيلي والعلاقات الشكلية في اللوحة وخص منها العلاقة بين الشكل والفراغ.
لقد كانت كتابات فري ثورة في مجال نقد الفنون التشكيلية، وكانت الحسنة التي قدمها إلى الفن هي أنه لم يعتمد على الواقعية والمحاكاة للقياس والحكم على الأعمال الفنية، واعتبر الشكل هو محور عملية التحليل للوحة التعبيرية والأعمال الفنية الحديثة. (Gill 1999, P.50) أما كليف بل فكان ناقداً مدافعاً عن النظرية الشكلية في الثلاثينات من القرن العشرين، وقد أكد على أن قيمة العمل الفني تتمثل في التنظيم الشكلي للعناصر الفنية سواء أكانت خطوطاً أو كتلاً أو مسطحات لونية. وينصب اهتمامه النقدي على توضيح العلاقات المدركة بين العناصر الشكلية الكامنة والفريدة في التصوير. (ستولينتز 1981، ص202)
وتقوم النظرية الشكلية على أساس نظرية أخرى في فلسفة الفن هي نظرية الفن للفن. وتعتبر النظرية الشكلية مرادفة لمفهوم الحداثة في الفن التشكيلي، فهي تستبعد كل صور المحاكاة في الفن وتعتبر التنظيم الشكلي هو المعيار الوحيد للحكم على العمل الفني. ولا تعترف بأي أثر للقيم سواء الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية على الفن. فلم يعد للموضوع وكذلك المضامين أي أهمية، بل المهم هو الشكل فقط. وفي الخمسينات والستينات من القرن العشرين كان لكتابات الناقد جرينبرج (Clement Greenberg) أثر في تطور هذه النظرية فقد مجد التجريد وعارض أن يقوم النقد على أي شيء خارج العمل الفني وعناصره الشكلية، وذلك بعدما انتشرت مدارس مختلفة في النقـد منهـا ما يبحـث في الـجوانب النفسيـة والجـوانب التسجيليـة لواقع حياة الفنانين. (Barrett 1994, P.103)
وتحاول النظرية الشكلية أن تبين أن ما يعده الناس البسطاء فناً (من صور الفن الواقعي)، ليس في حقيقته فناً على الإطلاق، وتعتبر أن الأشخاص الذين يتذوقون الفن الواقعي فقط، لم يفهموا الفن بالطريقة الصحيحة، وبالتالي تفوتهم قيمته. وتعارض هذه النظرية أي ارتباط للفن بالحياة ومضامينها. تقول ستولينتز (1981) "وترى هذه النظرية أن الفن الصحيح منفصل تماماً عن الأفعال والموضوعات وبأنه عالم قائم بذاته ومستقل، ومكتفياً بذاته، وليس مكلفاً بترديد الحياة والاقتباس منها فقيم الفن لا توجد في أي مجال آخر من مجالات التجربة البشرية." (ص195) وتقول أستاذة النقد سارة جيل (Gill 1999) "قدمت النظرية الشكلية طريقة جديدة لتحليل الأعمال الفنية التجريدية التي لم تتمكن النظرية الواقعية في النقد من توضيحها." (ص51)
لقد تخلى النقاد الشكليون عن كل ما يرتبط بالعمل الفني من دراسة تاريخية ومضمون واتجهوا إلى التعمق في دراسة الشكل وتنظيم العناصر الداخلية في الأعمال الفنية. وبذلك يندرج النقد البنيوي تحت مظلة النقد الشكلي، حيث يقول عطية (1997) في هذا الشأن حول النقد البنيوي "فهو يستبعد من موضوعه كل اعتبار حول قصد العمل الفني أو أي علاقة بين هذا العمل والقيم الاجتماعية، بتعبير آخر يعتبر هذا النقد العمل كغرض ما، أو أيضاً كشيء، لا يريد النظر لغير تنظيم وترتيب المواد التي تؤلفه." (ص198) وكذلك يعتبر النقد الشكلي أن "قيمة الفن تنحصر في عناصر وسطه، مثل الخط، والمساحة في التصوير، والكتلة والسطح في النحت، أي تلك العناصر التي تتفاعل من أجل تكوين البناء الشكلي لكل عمل فني." (ص190)
وتوضح جانسين (Jansen 1986) (عند Fitzpatrick 1992) هذه النظرية بقولها "هي التحقق من أجزاء العمل الفني التي يمكن تعريفها وتوثيقها كمرجع للحصول على المعلومات، والتي يمكننا قراءتها كوثائق مقروءة أو مكتوبة. إن قراءة خصائص الطراز الشكلي تتضمن حالة ومظهر العمل الفني والخامة والموضوع وشخصية الفنان وأدواته المساعدة، كما وأيضاً مقارنة العمل الفني بأعمال أخرى لنفس الفنـان، وأحكـام مؤرخـي الفـن على أعمـال أخـرى لفنـانين من نفس الاتجاه." (ص6)
إلا أن ما يؤخذ على هذه النظرية، أنها لم تقدم تبريرات مقنعة حول الاستجابة الجمالية للأعمال التجريدية (أي لماذا هي جميلة؟). فقد كان النقاد الشكليون يصفون استجاباتهم الجمالية بأنها وبكل بساطة انجذاب (Ecstasy)، لذلك فقد حاولت جيل (Gill 1999) أن تبرر هذه الاستجابة بقولها: "في محاولة مني لتبرير الاستجابة الجمالية للنظرية الشكلية فأنا أقترح بأن الطريقة التي نستجيب بها لجمال الشكل في العمل الفني نابعة من حواسنا وتجربتنا السيكولوجية. وقد كان بِلْ قد اقترح أن ما قصده من الفاعلية الشكلية يرجع إلى المثالية الأفلاطونية في قوله أن الفاعلية الشكلية تقع حيث نجد الحس بالحقيقة الجوهرية، وأن الحقيقة موجودة في مظاهر الأشياء." (ص15) وعلى أي حال فإن جيل ترجع الاستجابة الجمالية للنظرية الشكلية إلى التفضيل الشخصي الذي يعتبر واحداً عند الجنس البشري فهي تعتقد أن الأفراد سواء أعاشوا في أفريقيا أو آسيا أو أوروبا أو أمريكا، سوف يكون لهم نفس الاستجابة الجمالية للشكل الجميل. فقيم الجمال واحدة عند البشر وهي(الترتيب والنظام في الأشكال، والتكوين سواء اتسم بالاستقرار أو بالحركة، والاتزان، والتناظر، والإيقاع، والتنوع في الوحدة،.. الخ.)
3- نظرية المضمون:
تبحث نظرية المضمون عن معانٍ أكبر وأعمق من المعاني الجمالية في الأعمال الفنية التعبيرية. وهي تعتبر الفن أداة تخدم القيم العامة في المجتمع وأنه (أي الفن) وسيلة فعالة للتأثير على السلوك الإنساني. (Barrett 1994, P.104) وأن العمل الفني قد يعبر عن مستويات عديدة من المضامين التي تتدرج من المستوى البسيط التوضيحي إلى المستويات المعقدة من المضامين الرمزية الاجتماعية والسياسية. وحين يناقش النقاد مضامين الأعمال الفنية فإنهم يهتمون بالمعاني التي قصدها الفنان. ويهتمون كذلك بالمعاني التي تعكسها هذه الأعمال عند رعاة الفن وعند العامة من الناس، وكذلك المعاني التي تعكسها عند النقاد أنفسهم في لحظة مشاهدتهم لها، وفي حدود تفضيلاتهم الذاتية. (Gill 1999, P.100) إن ما يميز هذه النظرية هو أنها توفر للناقد مجالاً أوسع لتقديم تفسيرات متشعبة حول الأعمال الفنية، وتسمح له بالاستفادة من آراء الآخـرين. حـول العمـل الفـني (مثل: الفنانين، والنقاد الآخرين، ورعاة الفن، والمتلقين العاديين).
وهناك بعض النظريات الفلسفية التي أثرت في الفن وعلم الجمال وكان لها أثرها على النقد الفني، كما لعبت دوراً في توضيح المضامين المختلفة في الأعمال الفنية وهي كما يلي: