الاسطورة والفن الفلسطيني المعاصر



لقد لعبت الاسطورة دورا كبيرا في حياة الإنسان عبر عصور التاريخ وتداخلت اساطير الشعوب نتيجة التأثيرات الحضارية المتبادلة ، وتكشفت عبر أجناس أدبية وفنية متنوعة وتميزت على الأرض الفلسطينية في عصور غابرة «عدة آلاف من السنين قبل الميلاد» وامتدت في الحياة الشعبية الفلسطينية ، فأخذت اشكالا جديدة نراها في الفولكلور الفلسطيني بقنواته الجمالية المتعددة، واستمرت الى يومنا هذا حافظة الهوية الفلسطينية حضاريا وتاريخيا مما يؤكد تجذرها في الحياة الفلسطينية . نراها في الرسوم الجدارية والفسيفساء والرسم على الاواني الخزفية كما نراها في الحلي ومختلف الادوات المستخدمة في الحياة اليومية.

ـ1ـ
وحين نتحدث عن الاسطورة علينا أن نميز بين «الاسطورة» و «والخرافة» ، فالواقع كان دائما مصدر الاسطورة، والاسطورة هي الترجمة الابداعية «للشكل الفني» لصراع الإنسان مع الطبيعة والإنسان المضاد، وحين يتفوق الإنسان «ماديا» أو يجد مرراً علمياً لظواهر الطبيعة تختفي الاسطورة، وهذا يفسر «انقراض» الاسطورة بشكلها التقليدي في عصرنا الراهن، لكن لا بأشكالها الجديدة. فالعلاقات الانسانية الاسطورية نراها في كثير من الحالات اكثر واقعية من مظاهر الواقع الفيزيائي . والخيال الشعبي مازال مصدر صناعة الاسطورة في العصور الحجرية والبرونزية كما في عصر الديانات وأخيرا عصر العلم . لذلك كله لا يمكن البحث في الاسطورة بمعزل عن مصدرها الواقعي وصناعتها في الفكر الشعبي وارتباطها بالواقع الجغرافي «اساطير البحر عند الشعوب التي تقطن السواحل ـ مثلا» وهذا ما نراه عند اجدادنا الكنعانيين العرب، أو الاساطير التي ترتبط بالأرض الصحراوية والجفاف والمطر وثمة «عبارات» لها جذورها الاسطورية الفلسطينية نستخدمها في عصرنا الراهن «الزراعة البعل التي تعتمد على الامطار فقط ـ بعل الله كنعاني.. الخ» وثمة اساطير امتدت في الزمان واتسعت في المكان واخذت عدة أسماء «ادونيس ـ ديونيسيس ـ الخضر..» ووراء كل أسطورة خلفية واقعية «قصة ـحادثة» تروى في زمن وتناقلها الأجيال في الأزمان اللاحقة فتضيف عليها أو تحذف منها، أي تعيد روايتها، صناعتها من جديد ، فتضفي عليها جمالية خاصة تدفع الناس إلى الانفعال بها من أجل خلاصهم من قوى الشر او تحريضهم على مواجهتها، ويؤكد الفنان والناقد التقدمي حسن سليمان ما وصلنا اليه حول استمرارية الاسطورة بأشكال جديدة في عصرنا الراهن حين يقول : «ونحن في هذا القرن ، لم نعد نعترف بالأساطير لأن الظواهر والأحداث يمتزج ببعض ، وتحتل مكانها حسب اهميتها في نطاق مدركاتنا العقلية، لكننا في الوقت نفسه أصبحنا نشعر بوطأة بعض مواقفنا تجاه أشياء لم نجد لها تفسيرا او تبريرا،وهكذا يفتح المجال لانبعاث اساطير جديدة من نوع آخر، مثل أسطورة الفقر في آسيا وافريقيا رغم امتلاكهما للموارد الطبيعية، واسطورة المرض في الشعوب الفقيرة،والاساطير التي تروي في المجالات السياسية والاجتماعية، وكلها اساطير بلا ابطال. وفي الوقت ذاته نجد ابطالا بلا اساطير، فالمثل الهزلي في مسلسلات التلفزيون يصبح بطلا شعبيا بالضبط كأوليس وأجاممنون وأبو زيد الهلالي قديما كذا لاعب التنس ولاعب الكرة والمغني ،كلهم اصبحوا ابطالا بلا اساطير في حياتنا لأنهم فقط القادرون على الاستحواذ على المشاعر الجماعية».

ـ2ـ

من المؤكد ان العديد من الاساطير القديمة قد استمرت عبر الترجمة الابداعية الأدبية او الفتية الى عصرناالراهن، فما زال الحكواتي يشد الناس ويداعب العواطف ويهز المشاعر ويثير الانفعالات ،حين يقص سيرة «ابو زيد الهلالي» و «الزير سالم» و «عنترة بن شداد» ومازالت الرسوم الشعبية التي تعبر عن هذه الاساطير تتصدر جدران الحوانيت والمقاهي والمنازل الشعبية القديمة.

وستبقى «الاسطورة» تلك «الصورة» المكتوبة أو المرسومة او الموشومة اوالمروية، التي تمثل شكلا من أشكال الخلاص والتفوق على الطبيعة والقوى الشريرة، ستظل رمزا للخير والبطولة والحب والعطاء والعشق والتضحية والفداء عبر علاقات اسطورية لا واقعية في أشكالها وتكوينها، رغم جذورها الواقعية واهدافها الواقعية، تماما كما انسان الكهوف الذي رسم على الجدران صراعه مع الحيوان وانتصاره عليه، كرمز ، كتمثيل كمعادل موضوعي لانتصاره في الواقع، وهذا يعني «ان الاسطورة هي خرق لما هو طبيعي وتحد لما هو علمي وفق تصوراتنا للعلاقات العلمية، ولهذا تترجم مرحلة ما قبل العلم ، حيث كانت مسيطرة على كل الأشياء، ولكن رغت تناقضها مع تصوراتنا العلمية والطبيعية نراها متغلغلة في حياتنا بحيث يبدو ما هو حقيقي في وه من وجوهه اسطوريا خارقا للمألوف وتطاولا على ما هو شائع ولهذا ليس هناك فرق بين ما هو اسطوري وحقيقي ، كما قد نتصور للوهلة الاولى ، لأن ما نعتبره اسطوريا قد يكون أكثر حقيقة مما هو حقيقي فعلا ، وما قد يكون حقيقيا قد يكون اسطوريا قبل اكتشافه، وهذا يدلنا على ان بين الاسطوري والحقيقي علاقة جدلية تكشف الشيء الاسطوري الحقيقي احيانا، وتكون الحقيقة كالاسطورة لأنها تخالف ما ألفناه واعتدنا عليه في حياتنا، ومهما تطور الإنسان وتقدم في معارضته لما هو اسطوري ، او اتخذ موقف العالم الذي يرفض كل خرق للقانون الطبيعي، فان الطفولة الانسانية متغلغلة في حياتنا ، تحمل الينا الاسطورة دوما، وطالما الاسطورة موجودة في حياتنا وفي الفكر والادب والفن ، فهي شديدة التأثير على هذه الحياة، وقد تعني شكلا من أشكال التمرد على ما هو شائع علمي حديث، منظم ورغبة في البحث عن علاقات اخرى قد يرفضها العقل العلمي ، ولكنها قد تكون مقبولة لدى الفنان او الاديب، حيث يجد فيها (حلما)، فيه استشراف للمستقبل أو اطلالة على الماضي البعيد الغور ».

ـ3ـ

هكذا يحمل كل عمل فني قدرا من العلاقات الغريبة غير المألوفة «الاسطورية» فالخيال سمة الفنان، وهذا يعني ان نميز بين فنان قام باحياء وتسجيل اسطورة قديمة، وآخر عمل على اسقاطها على الواقع المعاصر «اجتماعيا» و «سياسياً»، وثالث ، صور الواقع بعلاقات اسطورية ، ولعل هذا التوزيع النقدي لأشكال استخدام ما هو اسطوري يقودنا الى الاحاطة بالتجارب الفنية المعنية بالاسطورة في الفن الفلسطيني المعاصر من جيل الرواد الى جيل الشباب، ويدفعنا الى استشفاف الأهداف المنشودة، وهي بلا شك متنوعة ، ليس فقط لتنوع المصادر التراثية «المتحفية» و «الشعبية المعاصرة» وأشكال التعبير. بل لتنوع المضامين والمواقف والجماليات، وقد نرى هذه الاهداف ممتعة في تجربة واحدة تعيد احياء الاسطورة وتسقطها على الواقع. أو تصور الواقع بعلاقات تشكيلية اسطورية.

وثمة احداث وبطولات وتضحيات في حياة شعبنا الفلسطيني فاقت في حقيقتها ما هو واقعي ، لتصل حدود الاسطورة ، ومن المؤكد ان هذه الاحداث ستبقى كالوشم، ذاكرة نضالية في ضمير شعبنا وستتناقلها الاجيال كأسطورة تضاف الى اساطير اجدادنا.. «بيروت ـ صيدا ـ صور ـ عين الحلوة ـ الرشيدية ـ الدامور ـ خلدة ـ الشقيف .. الخ» ولعل ما حدث في قلعة الشقيق يمثل اسطورة من اساطير البطولة والصمود والتضحية والفداء.. اسطورة معاصرة سترويها الأجيال الفلسطينية القادمة كرمز من رموز نضال شعبنا وصموده وتضحياته.ترى كيف تناول فنانونا أساطيرنا القديمة والمعاصرة بالتعبير الفني؟

وهكذا لا يمكن البحث في «الاسطورة » وتأثيراتها في الفن الفلسطيني بمعزل عن مصدرها الواقعي وارتباطها بالبيئة «اسطورة بعل في المناطق الساحلية ، اسطورة البحر في المناطق الساحلية اسطورة الربيع التي تبشر بانبثاقة الخضرة من الأرض .. الخ» كما لا يمكن تناولها بعيداً عن جدلية العلاقة بين «الاسطوري» و«الواقعي»، والاسطورة مصدر وحي للفنان، ففي كل عمل فني قسط من الخيال، ولا يمكن أن يكون هناك تطابق بين الحقيقة والفن، وبذلك يعتبر الخيال سمة الاسطورة والفن في آن واحد.وهكذا يحمل كل عمل فني قدرا من العلاقات غير المألوفة «الاسطورية».وهذا يعني أن نميز بين فنان قام باحياء وتسجيل اسطورة قديمة، وآخر عمل على اسقاط الاسطورة على الواقع المعاصر ،وثالث صور الواقع بعلاقات اسطورية ، ولعل هذا التوزيع يقودنا الى الاحاطة بالتجارب الفنية الفلسطينية المعنية بما هو أسطوري،ويدفعنا الى استشفاف الاهداف المنشودة في استخدام الاسطورة. وهي بلا شك متنوعة بتنوع المصادر التراثية والواقعية وتنوع المضامين والمواقف والجماليات وقد نرى هذه الاستخدامات المتنوعة مجتمعة في تجربة واحدة.

ـ4ـ

يعتبر الفنان مصطفى الحلاج من أكثر فنانينا تأكيداً على «الاسطورة» في تجربته الفنية، كما يعتبر من أوائل الفنانين الفلسطينيين الذين استخدموا ما هو اسطوري للتعبير عن الواقع الفلسطيني . ترى ماذا يريد «الحلاج» من «الاسطورة»؟ هل يقوم باحياء اسطورة معينة؟ هل يسقط «الأسطورة» على الواقع؟ هل يسجلها او يستخدمها استخداما معاصرا؟ هل يصوغ الواقع بعلاقات اسطورية «تشكيلية» تقود الى فعل اسطوري واقعي معاصر؟ هذه التساؤلات تعكس مسار تطور ما هو اسطوري في تجربة «الحلاج»، ففي بداية تجربته قام باحياء بعض الاساطير ثم عمل على اسقاطها على موضوعاته المستوحاة من الواقع الفلسطيني ، واخيرا اصبح يصوغ الواقع بعلاقات اسطورة لا صلة لها بأسطورة محددة، وحين قام باستخدام الاساطير القديمة للتعبير عن القضية الفلسطينية ، تناول اساطير مختلف الحضارات القديمة التي شهدتها الاراضي العربية، فاتجه الى اساطير مصر القديمة والى اساطير الاشوريين والبابليين والكنعانيين، حيث نجد «عشتار» و «ادوزيس» و «اوزوريس» و «داجون» و «ادونس». وقد بعثوا من جديد والتحموا بعناصره التشكيلية والتعبيرية المعاصرة وتحققوا كانجاز عبر القيم الرمزية التي تصل الحاضر بالماضي بالمستقبل ، ففي لوحة «داجون والقمر» نرى «داجون» البطل الاسطوري الكنعاني «اله البحر» والقمر محمولين على عربة كنعانية. يقودها مقاتل فلسطيني ، وبذلك رمز «الحلاج» الى الثورة وأبعادها، وارتباط الفلسطيني بجذوره ، هويته ، ووقفه قديما وحديثاً في وجه الغزاة وقدرته على الدفاع عن وطنه . ثم اتجه الى تصوير الواقع بعلاقات اسطورية ورمزية تقود في النتيجة الى مضامين ومنتهى الواقعية، ففي لوحة الفجر يعتمد «الحلاج» على شكل اسطوري في بناء اللوحة، هذا الشكل هو مزيج من عنصرين، الاول انساني «المرأة» والثاني حيواني «الديك» ، أي ان هذا الشكل الاسطوري قد تكون من عناصر واقعية، وإذا قلنا ان العلاقات التشكيلية الاسطورية لا واقعية، فسنكشف بعد قليل أن المضامين اكثر واقعية من الواقع المرئي ، الفيزيائي. لقد تحول بطن المرأة الى رأس ديك كرمز لولادة الثورة… انبثاق الفجر الجديد.

وحول مفهومه للاسطورة واستخدامها في تجربته قال في حوار لنا معه : «عندما أمسك الاسطورة أحاول أن أرى العالم كصورة حية وليس كمفهوم، فالمزاوجة ما بين الواقع في اللحظة ، ومماثلها المتكرر ، المتنوع عبر التاريخ يخلق شيئا قريبا من الشكل الاسطوري. وهناك فرق شاسع بين ان تفهم الاسطورة وان تحسها، وبين ان تبحث عنها في دفات الكتب وان تفجرها من اللاوعي الاجتماعي الذي تختزنه، وبين ان ترى العالم بشكل كابوس ، أي تمتزج الاشياء ببعضها، وبين ان تبعد عن أرضك ومكان طفولتك، وفي المنفى تتحول كل الاشياء الى كتل حية ، تحمل الحلم والذكرى ، بمعنى ان تتحول الى الشجرة التي كنت تلعب تحتها، والاحجار التي تقفز عليها، حتى رائحة المطر في هذه البقة تأخذ طابعا خاصا ، وتحت وطأة الحنين ينسحب التاريخ كله،وهنا تسحب الاسطورة لتدق الجذور ولا تبقى مساحة الخيمة إلا لحظة زمن وليست أرضا تنبت فيها جذور الاطفال الذين ولدوا عليها».

ـ5ـ

إذا كان «الحاج» في تجربته الفنية قد ب>ا بالاسطورة ليصل الى العلاقات الاسطورية ، فإن «عبد الرحمن المزين » قد سلك طريقا معاكسا، حين بدأ في تصوير الواقع الفلسطيني بعلاقات اسطورية ثم انتقل في مرحلة ثانية ليبحث في الاساطير الكنعانية ويسجلها تسجيلا حرفيا، ففي منتصف الستينات ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة، قدم «عبد الرحمن» العديد من اللوحات المستوحاة من قصص البطولة والفداء ، فصور المقاتلين كأبطال اسطوريين للتأكيد على الفعل الثوري البطولي الخارق، وعبر علاقات تشكيلية اسطورية،ومن المؤكد أن تصويره الواقع على نحو اسطوري انما يعكس اسطورة الفلسطيني المعاصر في تضحياته وبطولاته. ولم يقف «عبد الرحمن» عند حدود رفع الواقع الى مستوى الاسطورة، بل عاد ليبحث في الاساطير الكنعانية ويسجلها كشكل من أشكال احياء تراثنا الفلسطيني وهنا نذكر لوحاته «داجون ـ بعل ـ عناة ـ تقديم القرابين ـ عليان ـ حورون ـ … الخ» والتي تكشف عن صيغة واقعية تسجيلية ففي تصويره لهذه الاساطير اكد على مختلف الادوات والجماليات الاسطورية وبمنتهى الفوتوغرافية وهذا يعني أن «عبد الرحمن » لا يريد ان يسقط الاسطورة على الواقع المعاصر، لكنه يريد بالتحديد تسجيل الاسطورة تسجيلا وثائقيا، وهكذا يختلف عن غيره من الفنانين الذين استخدموا الاسطورة للتعبير عن الواقع باحداثه وقضاياه المصيرية . ترى لماذا التأكيد على القيم التسجيلية؟

حين أثرنا معه هذه المسألة قال: «قمت بدارسة الاساطير الكنعانية التي دخلت كعامل هام في أعمالي الفنية وهي الآلهة عناة ، الاله داجون الآله عليان، الآله حورون، الآله عليان بعل ، وهذا الاخير هو اله شاب يتمتع بمكانة مرموقة بني جميع الآلهة، وتشير نصوص أوغاريت الى مكانة ابن الاله داجون وهو اله محلي قديم في فلسطين »، ومن الجدير بالذكر ان الاله عليان بعل له ارتباط بالمجتمع الفلسطيني المعاصر ، قاسم «عليان» هو من الاسماء الفلسطينية والسورية المعاصرة، أما الاله بعل فكان اله الخصب، كان يخصب الأرض فينبت الزرع حسب اعتقاد الفلسطينيين قديما، وقد بقي هذا الاسم «بعل» مرتبطا بالنباتات التي تثمر بدون أن يسقيها الإنسان، فيقولون في فلسطين وسوريا ولبنان والأردن ، هذا الزرع بعل ، أو هذا الزيتون أو التين بعل ،وقد تناولت هذه الاساطير في أعمال فنية الهدف منها تبيان هويتنا التاريخية. وهذا يعني أن «عبد الرحمن» أراد أن يقول عبر القيم التسجيلية التاريخية ، أننا موجودون على ارضنا الفلسطينية منذ أقدم العصور.

ـ6 ـ

من المؤكد أن «الاسطورة» قد أخذت أهمية خاصة في الفن الفلسطيني بعد انطلاقة الثورة ، وعادت تظهر من جديد بعد غزو لبنان وحصار بيروت، ذلك أن الافعال الثورية ، البطولية . الخارقة ، التي مارسها المقاتلون في عمق الأرض ، وفي تصديهم للغزاة في زمن الحصار، من قلعة الشقيف الى بيروت، قد فاقت ما هو مألوف. «واقعي» ،ووصلت حدود الاسطورة، وهذا يفسر لنا انتشار الفعل الاسطوري عبر علاقات تشكيلية اسطورية في كثير من التجارب الفنية الفلسطينية والتي تمثل مختلف الاجيال . «عبد الحي مسلم ـ توفيق عبد العال ـ شفيق رضوان ـ عبد المعطي ابو زيد ـ محمد أبو صلاح ـ سليمان منصور ـ محمد المزين ـ جمال الافغاني.. وغيرهم».

ففي لوحة للفنان عبد لامعطي ابو زيد «مقاومة» ، صور الثورة الفلسطينية على شكل أسطوري هو مزيج من المقاتل وشجرة الزيتون، فقد تحولت الاطراف السفلية للمقاتل الى جذع شجرة نرى جذورها وهي تمتد في التراب ، وفي هذه العلاقة غير المألوفة «الاسطورية» دلالة في منتهى الواقعية، فالمقاتل لا يشير الى شخص معين ، بل يرمز الى مجموعة ، إلى الثورة ، كما تشير الجذور الى عمق ارتباط الفلسطيني بأرضه وتشبثه بها، وهكذا عكس «عبد المعطي» عبر علاقاته التشكيلية الاسطورية مضمونا فلسطينيا واقعيا معاصرا ، وفي لوحة للفنان سليمان منصور تحت عنوان «الحياة في الأرض المحتلة» صور «سليمان» الفلاح على هيئة عملاق اسطوري وهو يحمل فأسه ليواجه به جنود الاحتلال ببشاعتهم ، ومن خلفه تبرز المنازل الشعبية الفلسطينية وشجيرات البرتقال ، وتظهر جماهير العمال والفلاحين التي تمثل الخلفية المتينة للفلاح المقاتل الذي يرمز للانتفاضة في أرضنا المحتلة، وتناول الفنان شفيق رضوان المقاومة الفلسطينية عبر عناصر تشكيلية اقرب الى النحت منها الى التصوير، وعمل على دمجها ببعضها من جهة، وبالصخور منهجية أخرى، كرمز لصلابتها ، وللدلالة على حجم ارتباطها بالارض، وهكذا تحولت شخوصه المقاتلة الى جزء من الأرض التي تقاتل دفاعا عنها، وهذا ما نراه بأسلوب آخر في تجربة الفنان توفيق عبد العال الذي استخدم الحصان استخداما اسطوريا وعمل على أنسنته، فظهر كمقاتل يقف بصلابة في وجه الاعداء وهكذا تحول هذا العنصر الواقعي «الحصان» الى شكل اسطوري له في النتيجة دلالاته الواقعية ومحتواه الفلسطيني المعاصر. وتظهر الاسطوري بأشكال واسقاطات متنوعة في تجربة النحات الشعبي عبد الحي مسلم «نحت بارز ـ تقنية خاصة» ففي عمل بعنوان «آدم الفلسطيني » يكشف عن الهوية التاريخية الحضارية للشعب الفلسطيني ، فحين وصف «آدم» بالفلسطيني أراد أن يقول : «إن جذور الفلسطيني على أرضه فلسطين تعود الى اقدم العصور. الى فجر الانسانية».

وهكذا لعبت الاسطورة عبر علاقاتها التشكيلية الخيالية دوراً هاماً في التعبير عن الواقع بعمقه المادي لا مظهره الخارجي، ومثلت الصيغة الابداعية التي حفظت الذاكرة الحضارية والنضالية لشعبنا الفلسطيني المكافح.