بقلم الأستاذ عبدالعظيم الضامن. (منقول)

النقد الفني عملية إبداعية وليدة النبوغ العبقري.. وهو قديم نشأ مع نشوء ذلك الإنسان البدائي.
لقد بقي النقد سجين الاتجاهات الفكرية طيلة قرون مضت، بعيداً عن التخصص وهذا لا يليق به.. فهو فن قائم بذاته له لغة خاصة به تعتمد على مصطلحات منهجية وتعابير متميزة، إنه فن وليد الخبرة الجمالية والثقافة الفنية، والذوق التشكيلي. والعصر الحديث اقتضى الاختصاص في كل حقل من حقول البحث والمعرفة.. فالفنان أولى من غيره حينما يتفرغ لنقد الأعمال الفنية.. والنحات هو الأجدر عندما ينصرف لنقد النحت.
وهكذا في شتى ميادين العلوم الفنية.. فليس من المنطق أن يكتب الفنان عن المسرح مثلاً ما لم يكن ملم بقضايا المسرح وهكذا.. وإني هنا لا أعني أن لا يكتب الناقد إلا ضمن مجاله، فكم من قراءة تقدم بها شعراء لمعارض تشكيلية وعروض مسرحية استحقت التقدير.. المهم التفاعل مع الحدث والإلمام بمفردات الكتابة حتى لا يتم الخلط بين السريالية والتكعيبية ويحكم على ما لا يعرفه من الرؤى والانطباعات.
إن جل الأحكام النقدية الصادرة عن كُتَّاب طارئين على أحكام اعتباطية وتعليقات فنية، ونلاحظ دائماً النقد السطحي الذي لا يرقى بمستوى الفن في البلاد. وإن كان هناك أقلام تستحق التقدير والاحترام إلا أن الفرص لديهم قليلة ولا أعني هنا بالنقد المصبوغ بالمجاملة والمشاكسة.. وكم نتمنى أن يقدم هؤلاء دراسات يستفيد منها الفنان والمتابع والمهتم بالحركة التشكيلية حتى تصبح الذائقة للجميع ويستطيع كل زائر للمعارض التفاعل مع معطياته وأفكاره.

ويبدو أن المميزات التي يجب أن تتوافر في الناقد كثيرة لكن أهمها:
أولاً: الذوق التشكيلي.. وهو الإحساس النظري المكتسب التي تجوده عين البصر وعين الخيال- يجيد تقدير مواطن الجمال الفني والاستمتاع به.
ثانياً: الخبرة الفنية والجمالية.. وهي المعرفة الفنية التي يحصل عليها الناقد نتيجة لتجاربه في حقل الفن واحتكاكه المباشر بالفنانين ومعايشته لأعمالهم الفنية.. وتضل الأفكار المكتسبة قابلة للتأويل أو لتأويلات عدة وتضل دوماً منفتحة على قراءات متعددة مختلفة، لذا فالموضوعية والشمولية والثراء الذاتي شرط أساسي يفترضه على نفسه قبل فرض الآخرين عليه.
ثالثاً: المعاناة والمشاركة الوجدانية.. فالنقد تبصر عميق وتأمل واع للعمل الفني.. فعلى الناقد أن ينفذ إلى أفكار الفنانين ومشاعرهم ويستقرئ الخواطر التي عرضت لهم، ويستحضر التجارب التي أوحت لهم والقضايا التي ألهمتهم فيحس إحساسهم وينظر ببصائرهم إلى جوهر العمل الفني.. من هنا تشرع المعرفة في لعب دورها كسلطة تفعل في الواقع. لكنها ليست سلطة مستقلة بذاتها منشغلة بذاتها ومشغلة لذاتها كمعرفة مجردة. بل إنها طالما تتكون ستجد نفسها مجندة لتجسيد رؤية محددة. وعندما تصير المنظومة المعرفية نقطة التقاء لتلاقح الأفكار بين المبدع والناقد.. وهو الثاني مبدع أيضاً إذا وفق. لذا يتوجب على الناقد أن تكون نظرية النقدية جريئة تنطق من أعماق وجدانه.. من أجل تحقيق الغاية الفكرية القصوى. فالمنظور هو امتلاك الناقد لذاته وانتمائه لنفسه بالتحرر من الاقتراب الزائف والتصريح بحرية الرأي الواعية في إطارها التأريخي الخاص، وبحدود العلاقات الاجتماعية الرفيعة.
ومن هنا تأتي مسؤولية الناقد الكبير.. وهي عرض آراء من شأنها أن تخلق جواً من المساجلات النقدية والحوار الفني الهادف لتقويم الفنان لا لكشف السلبيات دون ذكر الإيجابيات.. فلا يخلو عملاً فنياً من صبغة الوجود.. وطالما أن العمل قُدم بصورته الطبيعية في عرضه أمام الجمهور فهو من حق الجميع.. ولكن يبدو أنه من الضروري سماع رأي الفنان حتى يتمكن الناقد من معرفة رأي الفنان في عمله وما هي أطروحاته لكي يتفاعل مع العمل جيداً وبما يحيط به من انفعالات.
إن من شأن الحوارات الفنية التي يخلقها الناقد بمثابة إشاعات تنير ميدان النقد وتبعث روح التنمية وتثري الأفكار فتتألق شوامخ الإبداعات عند الفنانين وتتداعب الآراء عند النقاد فتلد الجديد المدهش.. وتتطور التوعية بالفن والجمال لبناء شخصية المتذوقين الذين يستمتعون بجوهر الفنون. وهذا لن يأتي بالطبع إلا بغزارة إنتاج الفنانين المبدعين.
فالفنان هو الذي يحرك هاجس الساحة الفنية.. والناقد هو الذي يتفاعل مع الأعمال القوية ويبث فيها الحماس. لذا نتمنى أن يبدأ التفكير جاداً من قبل الفنانين بالمستوى الفني الذي ينتجوه.. وأن تحمل الأعمال الفنية المنتجة الموضوعية حتى يتلمس المشاهد وجدانه ومشاعره عبر فنان يتقن أدواته لأنه من المفروض أن لا ينفصل الجمال عن الموضوع المعاش.
والله الموفق..
عبد العظيم الضامن