((الشئ والعين والفنون التشكيلية ))
ليس العالم موجوداً لمجرد أن نتحدث عنه ، بل لكي نرقبه كذلك.
ونحن لانملك فقط ألسنة لنتحدث بها وآذانا لنسمع ، ولكننا نمتلك عيوناً لنري ونبصر .
وقد ركبت الآذان فينا لالكى تعطينا مجرد موسيقى أو أصوات خالية من المعنى ، تكفي في حد ذاتها لإمتاعنا ، بل هي تمنحنا كذلك الأصوات كرموز وعناصر ذات دلالة . وقد تبدو الأشياء كذلك للعين وكأنها رموز جامدة لاتعبر عن شيء كما تبدو أحرف الكتابة فوق صفحة من الورق أو كاللغة الخاصة التي قد يكتب بها موضوع عملي أو رسالة علمية . والأشياء المحيطة بنا تؤلف بالنسبة للعقل العملي المتعجل مجرد تتابع من رموز ، يقول (روجر فراى ) في كتابة (( الرؤية والصورة ))
(( إننا لانستخدم في عملية الرؤية التي نمارسها أثناء اليوم أبصارنا بأي معنى جمالي علي الإطلاق .
ونحن نبصر ذلك القدر من الأشياء الذي يهمنا أمره ويفي بأغراضنا . أما الجانب التشكيلي من المنظور من لون وخط وشكل وحجم فهذا مالا نراه على الإطلاق .))
غير أن الألوان والأشكال تستوقف الأنظار بدرجات متفاوتة . يقول علماء النفس :
إننا جميعاً نستجيب للمنبهات الحسية استجابة إلية . ومع ذلك فالاستجابة عند معظم الناس مجرد شيء بدائي ، وهي لاتعدوا أن تكون اختلاج عضلة أو ثوران عصب حسي لايكاد يلحظ . أما الرسم أو المثال فيحيل أحاسيسة إلي استجابات حركية ثم يجسد تلك الاستجابات على لوحة أو بقطعة من الرخام . وكذلك المشاهد الذي يتأمل عملاً من أعمال الفن التشكيلي يستوقفه ويثير اهتمامه ما فيه من قيم تشكيلية مميزة له أو بمعني آخر مافيه بالفعل مما يهم العين .
أما الفنون التشكيلية تنطوي علي قيم أخري غير تلك التشكيلية ، فهذا ماسوف يتاح لنا أن نلحظه حالاً . فالعين هي دائماً عين كائن حي .وقد تثير المرئيات الخيال على نحو ما تفعل كلمات النثر أو الشعر . فالشكل واللون هما شكل ولون لشئ ما وهذا الرسم الذي يبدوا للعين في اللوحة هرماً هو (( عائلة مقدسة )) وذلك القطع الإهليجى وجه . وذلك الرذاذ الأحمر ثوب أو الجزء المشع في منظر غروب . وترتبط الأشياء المرسومة في صورة برصيد العواطف البشرية بأسرها والعين التي تبصر هي عين كائن حي ترتبط عيناه بشئ أكثر من مجرد جهاز بصري ، له اهتمامات غير تلك الاهتمامات الجمالية الخاصة . ولهذا فإننا نجد أشخاصا يبدو لهم الرسم دائماً وكأنه شعر واضح الشئ المرئي ، ولم يدربوا ولم يهيئوا أنفسهم للاستمتاع بما هو قائم أمام العين في بساطة وجلاء . إن الاستمتاع التشكيلي الخالص لصورة يقتصر على الخطوط والألوان المنقوشة في لوحة ،وعلى الأشكال والكتل في النحت ، وعلى المساحات والأحجام في العمارة . وبالنسبة للعمارة تدخل اعتبارات المنفعة في الاستمتاع الجمالي ذاته . ولكن المنفعة مجسدة في البناء . إن العين تراها منفعة أكثر منها شيئاً يتصور أو يتخيل .
وأول خطوة في طرق التذوق والتقدير الجمالي للفنون التشكيلية هي استرجاع العين سذاجتها وسرعة تجاربها مع الاندماج لحظة المشاهدة في موضوع الرؤية والتصوير في نظر الكثيرين مجرد تصوير فوتوغرافي باللون أو مجرد رسم صورة ذات خطوط واضحة وجميلة . ولكن محب التصوير والنقش على هذا الوضع لايهتم أساساً بالرسم على الإطلاق . إنه يهتم بما يستطيع رؤيته وبما في طوقه أن يستمتع به بالنظر . وهذا الاهتمام ينصب في المحل الأول على اللون والخط والكتلة .
- ويعبر( دى ويت باركر) في كتابه ( مبادئ علم الجمال ) بقوله :
(( لايكفى أن تحركنا الصورة عن طريق الوجود التعويضي لشئ مثير مرسوم في لوحه ، بل يجب أن تهزنا على نحو أكثر فورية عن طريق مخاطبة الحس مباشرة . فالتصوير الذي يقدم لنا شيئاً يشابه البحر مثلاً يستولى على مشاعرنا من خلال ما يملكه البحر من قوة وسلطان على نفوسنا . ولكنه لايصيب هذا الهدف بسرعة مثل صورة لنفس الموضوع تبهرنا بما فيها من خضرة وزرقة وخطوط متما وجه . فالأولى تستميلنا من خلال الخيال ، والثانية من خلال الخيال والحواس معاً )) .
والألوان مثل الأنغام وظائف للاهتزازات الضوئية والصوتية .والاختلاف في درجة اهتزاز الأثير يؤدى إلى فروق في اللون . ولهذه الألوان المختلفة صفات نوعية وتأثيرات عصبية ذاتية . وهى أشبه بالأصوات والأذواق والروائح من حيث إنها تستعصى على المحاكاة والنقل إلى مصطلحات أخرى . فبغض النظر إذن عن أية فروق في الإقتران والتداعي ، فلفروق اللون ذاتها آثار نوعية من حيث المتعة أو الألم الطفيف ومن الثابت أن في اللون تنافراً كما في الصوت وثمة ألوان ساطعة وحادة مثل الأرجواني والبنفسجي .وثمة ألوان هادئة رقيقة مثل بعض الأصباغ الزرقاء الخفيفة . وقد حاولت منظمة اللون منذ بضع سنوات مضت أن تصنع من اللون فناً مجرداً ، وحققت في ذلك غير قليل من النجاح .وهناك بعض الأشخاص الذين يتمتعون بحساسية زائدة أكثر من غيرهم لفروق اللون الخفية . وربما توقف جو اللوحة وسحرها على ما قد يتمتع به الفنان من موهبة في استغلال هذه الإثارة العصبية الأولى التي تحدثها مختلف التكوينات اللونية .
على أن الألوان لاتبدو لنا في تجربتنا العادية مجرد ألوان تراها العين ، بل هي ترتبط بأحاسيس وذكريات سارة أو الاكتئاب . ولما كانت أحاسيسنا وذكرياتنا مترابطة ومتداخلة على هذا النحو فقد تُحدث ألوان الصورة بطريقة مبهمة آثاراً متحدمة من خلال هذه الترابطات التي لانكاد نسيانها . فاللون كما تراه العين وما يثيره في الخيال ، كلاهما سمات ضرورية في تأثيرها الجمالي .