إذا كان طفلك عدوانيًّا يشكو معلمه من تقطيعه لكتبه أو ضربه لزملائه أو هروبه من الفصل، أو إذا كان يعاني من مشكلة التبول اللاإرادي الذي لم يجد له الأطباء سببًا عضويًّا مباشرًا، أو حتى إذا كان يعاني من مرض التوحد ولا يحب التحدث مع الآخرين، أو كنت تشكين من قضمه لأظافره أو اكتئابه منذ تركتم المنزل القديم وانتقلتم إلى منزلكم الجديد.. فلكل هذه الأسباب يمكنك فورًا اللجوء إلى علاجه عن طريق الفن أو الرسم.

في البداية تقول الدكتورة عبير محمود - أستاذة مساعدة في الطب النفسي بمركز الإرشاد النفسي بجامعة عين شمس: " في العيادات النفسية الخاصة بالأطفال هناك برنامج علاجي يسمى برنامج التأهيل للأطفال الذين يعانون من مشكلات نفسية مؤقتة أو أمراض عقلية ونفسية كالاكتئاب والفصام بصور مختلفة عما هي عند الكبار، يعتمد هذا البرنامج على علاج دوائي وآخر سلوكي معرفي في نفس الوقت، يقوم به الأخصائي النفسي والأخصائي الاجتماعي بجانب الطبيب النفسي، كما يمكن أن يشارك معلم الطفل في المدرسة أيضًا، وفي نفس الوقت يكون العلاج بالفن عن طريق إعطاء الطفل مكعبات ليصنع منها أشكالاً، أو لفت نظره إلى اللعب بالألوان والفرشاة أو تنمية مهاراته عن طريق اللعب بالصلصال وتكوين أشكال معينة حتى يتمكن هذا الطفل بعد ذلك من نطق كلمات بسيطة والاعتماد على نفسه في بعض الأشياء.
و بالنسبة للأطفال الذين يعانون من الأمراض النفسية كالفصام أو الاكتئاب أو الذين يعانون من أعراض نفسية مؤقتة كالطفل العدواني الذي يمكن أن نجذب نظره إلى ممارسة الفن بدلاً من السرقة وضرب الآخرين؛ فيفرغ طاقته في عمل أشكال مختلفة بالصلصال أو الرسم فينمي ذكاءه في نفس الوقت، وبالتالي تكون الفرص سانحة لأن يمدحه الآخرون لكي يكتسب ثقته بنفسه، وكذلك بالنسبة للطفل الذي يعاني من تبول لاإرادي غير عضوي السبب، أو يشكو من رؤيته لأحلام مزعجة، وتكون مهمة الأخصائي الاجتماعي البحث عن السبب وراء الحالة التي قد تكون مشكلات في المدرسة أو يكون ترتيب هذا الطفل متوسطًا بين إخوته ؛ فلا يشعر باهتمام مَن حوله به، فالأخ الأكبر يتحمل المسئولية ويُحاسب على أفعاله والصغير يدلل، وقد يكون السبب هو حرمان هذا الطفل من جيرانه وأصدقائه إذا كان أهله قد تركوا مسكنهم القديم إلى مسكن آخر بعيد وهكذا، ولا يختلف الأمر بالنسبة للأطفال الذين يعانون من مشكلات في التخاطب واضطراب اللغة، فيكون العلاج عن طريق متخصص في التخاطب من ناحية وطبيب وأخصائي نفسي من ناحية أخرى.


الوظيفة النفسية والعلاجية:

يقوم التعبير بالرسم أو الخامات المختلفة ـ من جانب الطفل في المراحل الأولى من العمر وحتى المرحلة الثانوية ـ بدور "التنفيس" عما يشعر به من أزمات أو مشكلات قد تظهر في شكل عدوانية ضد الآخرين أو انطواء أو غيره؛ ولهذا فإن من يمارسون الفن في المراحل الأولى من عمرهم يمرون بمرحلة المراهقة بنجاح ودون أية مشكلات نفسية، كما يتميز هؤلاء أيضًا بتكامل شخصيتهم ووعيهم.. هكذا أجملت الدكتورة سهير إسحاق - أستاذة ورئيسة قسم علم النفس التربوي بكلية التربية الفنية - فكرة العلاج بالفن التي تتبناها كلية التربية الفنية منذ خمس سنوات للأطفال من سن 3 سنوات، وهي السن التي يمكن للطفل فيها أن يمسك بالقلم ويرسم الأشكال التي يتخيلها، ويكون دور المعالج بالفن هو محاولة تفسيرها، فإذا بدأ الطفل برسم الأشخاص كأن يرسم دائرة بها نقطتان أو عينان ويقول: هذا بابا، أو ماما. هنا يعتبر هذا الطفل طبيعيًّا، أما إذا هرب من رسم الأشخاص فهنا يبدأ التساؤل والبحث عن السبب، لماذا لا يتعامل الطفل مع ما يسميه علماء النفس والكمبيوتر النمط الأيقوني؟ ويقوم المعالج بالفن بتقريب هذا المفهوم للطفل من خلال الوجوه من حوله، فيقول له: هذا بابا. هذه ماما، ثم يبدأ التوليف بين الأشكال الآدمية والأشياء الأخرى كالزهور والطيور، من خلال هذا الحوار بين الطفل والمعالج يتعرف الطفل على الألوان وطريقة خلطها وعلى الأشياء من حوله، فيرى شكل الوردة في الحديقة ويلفت المعالج نظره أي أن هذه وردة كبيرة وتلك لونها أحمر، وهذه زروع لونها أخضر.. وهذه ساق .. وتلك أوراق، وهنا يبدأ الطفل في التعرف على هذه الأشياء التكوينية ويلمسها بيده، وهو ما يسمى هنا العلاج باللمس، فعندما يلمس الطفل الأشياء بيديه يزول شعوره بالخوف من الكائنات والأشخاص من حوله، ومن يستطيع التعامل مع الألوان كل لون منفصل، ومزجه مع لون آخر، يستطيع أيضًا أن يتعامل مع الأشخاص، وفرض استخدام لون معين للطفل تمامًا مثل التلقين يولد طفلاً جامدًا وليس مبدعًا، والأطفال عمومًا يميلون لاستخدام اللون الأصفر وهو لون يعني الإضاءة والحيوية.

لكن ما الدور الذي يلعبه العلاج بالفن مع الأطفال الأسوياء؟ أو الذين يعانون من مشكلات نفسية؟
الكلام مازال لدكتورة سهير إسحاق ـ في ورشة الرسم بالكلية جاءني أحد الأطفال وقال لي: لا أعرف كيف أرسم. فقلت له: استخدم البلاستين – وهي عبارة عن عجائن لدنة تسمى عجائن السيراميك وألوانها جذابة وتتشكل في أشكال مختلفة، فقال لي: أخاف أن تتسخ ملابسي وتغضب أمي. وهنا كشف الطفل عما تقع فيه الكثير من الأمهات والآباء عندما ينهرون أبناءهم إذا هم أمسكوا بالأوراق أو الألوان أو الصلصال خشية أن تتسخ ملابسهم أو يقوموا بكسر أو تخريب بعض الأشياء بالمنزل، وهؤلاء لا يدركون قيمة اللعب عمومًا والفن خاصة، فالطفل يتخيل ما يرسمه أو ما يشكله باستخدام الصلصال أو الأقمشة، وفي هذا تنمية لخياله وإبداعاته، وممارسه الطفل للفن تجعله أكثر سعادة خاصة حينما يمر بمرحلة بها بعض التوترات أو الإحباط.

وهناك طفل آخر كانت تشكو والدته من نومه لفترات طويلة وأنه عادة ما يشكو من أحلام مزعجه، وأنه يخاف من أن يمد يده ليسلم على أي شخص يمد له يديه ليسلم عليه، واكتشفنا أن السبب في الأم نفسها التي لا تقدر أهمية الرحلة الخيالية التي يقوم بها الطفل أثناء النوم، ولا تهيئ له الجو الهادئ ليستقبل هذه الرحلة عن طريق الحكايات أو توفير جو من الهدوء وليس الصراع والعراك.. فكل هذا يؤثر على هذه الرحلة الخيالية، وأدركنا أيضًا أن هذا الطفل يفتقد الحنان والتلامس الجسدي بينه وبين أمه، فبدأت أطلب منه أن يقوم برسم شيء يخاف منه، فبدأ يرسم -وهذا هو الدور التنفيسي العلاجي والتشخيصي أيضًا للفن- بعدها بدأ الطفل يسلم على الكبار بعد أن بدأ يشعر بالعطف والحنان من الموجودين حوله، وأصبح يتعامل مع الآخرين بشكل طبيعي وهذا كله من تأثير البيئة التي يجد فيها الأطفال حوله يلعبون ويضحكون ويمارسون الرسم. والأطفال العدوانيون نلاحظ أنهم يستخدمون الألوان القاتمة ويبدءون بتخريم الورق، والأطفال الانطوائيون نجد أن أهلهم في البيت لم يعودوهم على تحمل بعض المسئوليات الصغيرة ليكتسبوا ثقة بأنفسهم وهنا نبدأ في إعطائه قدرا من التدريب على تحمل المسئولية من خلال الأنشطة الفنية.

فائدة تربوية وتعليمية:

ويؤكد الدكتور حمدي عبد الله - عميد كلية التربية الفنية بجامعة حلوان - أن الرسم يقدم للطفل خبرات يستفيد بها في حياته مثلما يستفيد من دراسة الرياضيات والعلوم واللغة العربية، فممارسة الرسم تضيف للطالب بعدًا جماليًّا يمكنه من التعامل بشكل راقٍ في حياته.. يرتدي الملابس المتناسقة الألوان، ويحافظ على بيئته نظيفة وجميلة، ويرتب منزله وغرفته بشكل جمالي إلى جانب أن التربية الفنية يمكنها أن تساعد الطالب في استذكار وتذكر بعض المواد الدراسية وربطها ببعضها، عن طريق الرسم التخطيطي للموضوع الدراسي واستخدام ألوان كل جزئية أو تفريعة وبالتالي يمكن استرجاع أية معلومة عن طريق تذكر الشكل التخطيطي وألوانه، وكانت هذه الطريقة هي طريقتي – والحديث ما زال للدكتور حمدي - في استذكار دروسي في المرحلة الثانوية.

وهناك نظرية طبيعية – فسيولوجية تؤكد أن فهم الفن الذي يشغل الناحية اليمنى من المخ يساعد على زيادة فاعلية الناحية اليسرى المسئولة عن فهم المواد العلمية من الناحية الحسية والحركية وأسلوب التفكير أيضًا، تخيل وضع جسم في تمرين أو مسألة في الهندسة الفراغية، فإن تعلم الطفل أو الطالب أهمية الأبعاد وتأثيرها على الأشكال فإن هذا سيفيده في فهم العلوم والجغرافيا، والفن كلغة لها مفرداتها التي تعتمد على وضع لون بجانب لون، وشكل بجانب شكل، وخط بجانب خط، وتفاصيل دقيقة أخرى ترتبط بتعلم اللغات التي تعتمد على وضع جملة بجانب جملة مع مراعاة بعض التفاصيل الأخرى.

لكن بعض مدرسي الفن قد يتسببون في عزوف الطلاب عن ممارسة الفن عندما يعطون كل وقتهم وتقديرهم لأصحاب المواهب ولا يكون من نصيب الباقين – وهم الغالبية- سوى التوبيخ..فمنهم غير المتخصصين ويتعاملون مع الطلاب على أنهم رسامون كبار وليس لديهم فكرة عن المستويات المختلفة للطلاب من حيث استعدادهم لاستخدام الألوان أو الخامات المختلفة عبر المراحل العمرية المختلفة، وهذا يدركه جيدًا مدرس التربية الفنية المتخصص، حيث يتعلم كيف يوجه الطفل للإمساك بالقلم والفرشاة. فالكتابة غير الرسم، ويوجهه أيضًا إلى النظر إلى الأشياء حوله والتدقيق فيها مثل قطعة من فاكهة بعد قطعها طوليًّا أو عرضيًّا وتأمل أجزائها ونقلها؛ فهذا يساعد الطفل على اكتشاف الأشياء ويدربه على الرسوم المختلفة المطلوبة في مادة العلوم والرياضيات والجغرافيا وكذلك الخط العربي، فمعرفة النسب والأبعاد أمر مهم، وليس هناك طفل غير فنان، والمعلم الواعي هو الذي يشجع الجميع ولا يجعل الفن مجرد نقل للطبيعة أو يحكم على العمل الفني بمدى مطابقته للطبيعة؛ لأن الفن إعادة تمثيل للطبيعة.

والتحجج بقلة الإمكانيات للرسم والفن من جانب بعض أولياء الأمور ليس مقبولاً، فهناك الكثير من البدائل، فإذا لم يوجد ورق للرسم يمكن للطالب أن يقوم بالرسم بالطباشير على أرض فناء المدرسة كتخطيط الملعب بمساعدة المعلم وبقية الطلاب، فهذا ينمي روح التعاون والجرأة، وباستخدام الجرائد القديمة أو المجلات القديمة يمكن أن يقوم الطفل بقص صور الأشخاص أو العمائر والبيوت وغيرها ويلصقها على ورق أبيض بطريقة جديدة ليكوِّن شكلاً جديدًا بقليل من النشا (أو الصمغ) ويسمى هذا (الكولاج)، وهناك الكثير من الأفكار الأخرى لاستخدام نفايات المنزل من علب الكرتون أو علب السمن أو قصاصات القماش، أو علب الشامبو أو علب المعجون الفارغة بعد فتحها واستخدامها بأشكال معينة لصنع مقلمة أو عرائس، أو قفاز للعب باستخدام أزرار قديمة أو خرز، ويمكن أن يصبح المنتج النهائي مصدر دخل للطالب إذا قام بعرضه للبيع كما يفعل الطلاب في العديد من بلاد العالم.
منقوووووول عبير صلاح الدين