[align=center]تربية وتنشئة الفرد
في إطار متوازن بين ثقافة مجتمعه
والاحتكاك بالثقافات المجتمعية الأخرى
(دراسة مفاهيمية تحليلية)

دراسة من إعداد
أستاذ دكتور
سالم حسن علي هيكل
أستاذ أصول التربية

كلية التربية – جامعة الملك سعود


1423هـ / 2002م

بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

[align=justify]مقدمة الدراسة وأهميتها :
لا شك أن الإنسان هو ركيزة التقدم والرقي الحضاري ، لذلك فإن قضية بناء الشخصية الإنسانية في أي مجتمع من المجتمعات البشرية كانت ولا تزال وستظل قيد البحث والدراسة طالما كانت هناك حياة استهدافاً لإيجاد السبل والأدوات والمناهج المناسبة لتكوين تلك الشخصية بما يحقق للمجتمعات الإنسانية الاستقرار والتنمية في كافة المناشط الحياتية بها ، بما يتفق وطبيعة وثقافة وظروف وعقيدة كل مجتمع من هذه المجتمعات .
إن مظاهر التقدم والرقي الحضاري التي نراها ونجدها اليوم في دول العالم المتقدم ، هي نتاجاً طبيعيا للتقدم الكبير الذي أحرزته هذه الدول في مجال إعداد وتنمية ثرواتها البشرية ، مما أدى إلى توليد قوى بشرية على مستوى عال في كافة مجالات الحياة النظرية والتطبيقية .

وغني عن البيان أن التربية هي الوسيلة الوحيدة الفعالة لإقامة بناء بشرى قوى ناضج يمكن من خلاله إقامة نهضة حضارية للمجتمع البشري وتحقيق آمال وطموحات أفراده في حياة كريمة مستقرة . ولعل من أبرز الأمثلة التي يمكن أن تذكر في هذا الشأن دولة اليابان التي حققت نهضتها الكبرى عن طريق ثرواتها البشرية التي أعدت لتحقيق هذه النهضة وذلك التقدم الذي أذهل العالم ولا يزال .

وفي الحقيقة فإن التربية تعتبر أكبر عملية حياتية في المجتمع البشري ، وهي ليست عملية سهلة أو بسيطة ولكنها عملية معقده ومركبة ، وهي ليست مسؤولية جهة معينة في المجتمع ولكنها مسئولية المجتمع كله ، كما أنها يجب أن تتم في مرحلة الطفولة حيث عدم النضج والطواعية ومن ثم سهولة إتمامها كما حدث ويحدث في الدول المتقدمة .
وقد يعتقد البعض أن التربية هي التنشئة الاجتماعية وحسب ، ولكن التربية عملية أكبر وأشمل من ذلك بكثير ، فهي تتضمن أنواع مختلفة من التنشئة بجانب التنشئة الاجتماعية فهناك التنشئة السياسية والدينية أو العقائدية والاقتصادية والإدارية والقانونية إلى غير ذلك من أنواع التنشئة ، كما أن التربية تهتم بجميع جوانب الشخصية الإنسانية سواء الجانب العقلي أو الجسمي أو الجمالي أو الأخلاقي أو الانفعالي إلى غير ذلك من جوانب شخصية الفرد ، وذلك في إطار متكامل ومتوازن .

والواقع أنه مع صعوبة العمل التربوي في المجتمع البشري وأهمية وضرورة وحتمية هذا العمل لبناء شخصية الفرد في الإطار المأمول ، فإن هناك ثمة صعوبات أو يمكن اعتبارها واجبات لا بد لهذا العمل التربوي أن يضطلع بها ألا وهي ضرورة الحفاظ على التراث الثقافي للمجتمع ونقله من جيل إلى جيل مع الالتزام بضرورة تجديده والإضافة إليه في ظل الاحتكاك بالثقافات المجتمعية الأخرى ، وفي ظل المستجدات في عالم التكنولوجيا وثوره المعلومات والاتصالات وأيضاً في ظل المفاهيم الجديدة التي طفت على سطح الحياة المعاصرة في الآونة الأخيرة مثل العولمة والكوكبة والسماوات المفتوحة والعالم باعتباره قرية واحدة …، إلى غير ذلك من المفاهيم التي تلقي بالكثير من العبء على كاهل العمل التربوي وتزيد من مسئولياته والتزاماته .

إن عملية التربية في المجتمعات البشرية في السنوات الأخيرة لم تعد أمرا سهلا أوهينا كما كانت من قبل ، فإذا كان الحديث منذ فترة طويلة قد أفاض في كون التربية عملية معقدة ومتشعبة وأنها مسئولية المجتمع كله إلى غير ذلك ، فلا شك أن التربية في نهاية القرن الماضي ونحن في أوائل القرن الحادي والعشرين لم تعد كذلك . فلقد ازدادت تعقيدا وتشعبا وأصبح الأمر يتطلب جمع شتات العمل التربوي ووضعه في إطار مجتمعي مناسب يحقق أهداف المجتمع وطموحاته . ذلك أن على التربية مسئولية لا مفر منها ولا مهرب - هي ضرورة أن تضع في اعتبارها قضية الاحتكاك بالثقافات المجتمعية الأخرى كأمر واقع لابد من القدرة على مواجهته في صورته المتطورة المعاصرة خاصة في ظل الأقمار الصناعية وعصر السماوات المفتوحة وانتشار ظاهرة اقتناء الأطباق المستقبلة للقنوات الفضائية العالمية والإقليمية وشبكات الإنترنت .

ثم تأتي القضية الهامة والحساسة والمصيرية ألا وهي الحفاظ على الهوية القومية وثقافة المجتمع الأصلية بجانب الاحتكاك والتعرض للثقافات المجتمعية الأخرى ، وهي عملية ليست سهلة بل هي في غاية الصعوبة والتعقيد وتحتاج إلى جهود متضافرة ومتعاونة ومخلصة ، وخاصة في المجتمعات النامية التي تفتقد وضوح الرؤى والأهداف ، والفكر المجتمعي الواضح والأصيل .

مشكلة البحث
تحاول الدراسة الإجابة عن التساؤل التالي : كيف يمكن بناء الشخصية الإنسانية في المجتمع البشري في إطار متوازن بين ثقافة مجتمعة والاحتكاك بالثقافات المجتمعية الأخرى ؟ .

منهج البحث
استخدم الباحث المنهج الوصفي التحليلي ، لرصد القضية محل البحث وتحليلها وبيان أبعادها وتعرف جوانبها المختلفة ورصد تطورها .
محاور الدراسة
يتناول الباحث الدراسة الحالية من خلال عرضه للمحاور التالية : -
1. وضوح مفاهيم التربية والتنشئة والثقافة والعولمة ، وارتباط هذه المفاهيم بحركة والمجتمع نحو المحافظة والتغيير.
2. التربية والحفاظ على ثقافة المجتمع الأصلية .
3. التربية والاحتكاك بالثقافات المجتمعية الأخرى .
والواقع أن عرض الدراسة لمفاهيم التربية والتنشئة والثقافة والعولمة كما سبق ليس الهدف منه استعراض

إن الحفاظ على ثقافة المجتمع الأصلية يتطلب من الدول النامية أن تقتدي بالدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودولة اليابان وغيرهما ، من حيث البحث عن العوامل والقوى التي جعلت هذه الدول تصل إلى هذه المرتبة من التقدم والرقي والازدهار من خلال الحفاظ على ثقافاتها والعمل على تجديدها بما يحقق لها هذا التقدم دون المساس بالعناصر الأصلية لهذه الثقافات ، على أن يكون هذا الإقتداء بعيداً عن العقائد واللغات وكذلك بعيداً عند الأخذ بالقشور دون الجوهر، وأن الإقتداء يكون من خلال العناصر التالية :
- أن يتبنى المجتمع فلسفة حياتية واضحة بلا غموض وأصيلة بحيث تكون نابعة من جذور هذا المجتمع مثلما تتبنى أمريكا الفلسفة البراجماتية والتي ينبثق عنها الفلسفة التربوية والفلسفة التعليمية وغيرهما مما يوجه حركة الحياة في المجتمع الأمريكي .
- أن تقوم كل المؤسسات الاجتماعية بالأدوار التربوية المنوطة بها على أكمل وجه في إطار فلسفة وثقافة وأهداف وطموحات المجتمع .
- أن يكون هناك تكاملية في الأدوار التربوية لجميع الوسائط التربوية بلا تناقضات أو نقائص أو إشكاليات يمكن أن تكون نتيجة لعدم تواجد التكاملية التربوية في المجتمع .
- عدم السماح بقيام التعددية التعليمية في المجتمع وأن يكون هناك وحدة واتساق في عملية بناء وإعداد الفرد للحياة والعمل في مجتمعه .
- أن التعددية الثقافية واللغوية لا تعنى بالضرورة قيام التعددية التعليمية في المجتمع ولكنها تعنى أن ينفتح المجتمع على الثقافات المجتمعية المختلفة ليتعرف عليها لا ليتقمصها ، ليأخذ منها كل مفيد لا ليقلد ويحاكى ما فيها دون تفكير أو تمييز ، كما أن التعددية اللغوية تجعل التعرف على الثقافات الأخرى والاستفادة منها أمر سهل ويسير وذلك دون إهمال للغة المجتمع ولكن ذلك يحدث في إطار أن من عرف لغة قوم أمن مكرهم .
إن عملية التربية في ظل مجتمع يتبنى فلسفة مجتمعية وفلسفية تربوية واضحة وأصيلة ، وأن كل المؤسسات الاجتماعية فيه تقوم بأدوارها التربوية والثقافية المنوطة بها في إطار من التكاملية والوحدة والاتساق بعيداً عن التعددية التربوية والتعليمية مع الأخذ بالتعددية الثقافية واللغوية بما يفيد المجتمع بعيدا عن التقليد والمحاكاة ، إن التربية في مثل هذا المجتمع تصبح عملية سهلة وميسورة وواضحة المحتوى والهدف ، وهي في نهاية الأمر سبيل المجتمع لتحقيق كيانه واستقراره والحفاظ عليه وفي نفس الوقت تحقيق التنمية لهذا المجتمع وإقامة نهضته المنشودة .

تعتبر التربية من أصعب وأعقد العمليات الحياتية والمجتمعية ، وذلك يعزى لأنها عملية موضوعها الإنسان ومسئوليتها تقع على كاهل المجتمع كله وليس جماعة بعينها أو مؤسسة اجتماعية واحدة كما يعتقد البعض بالنسبة للمدرسة مثلا ، ومن ثم فالتربية عمل مجتمعي يتطلب الصبر والوقت والعلم ، ولعل تمسك الدول المتقدمة بهذه الأمور الثلاثة وإدراك قيمتها لنجاح العمل التربوي في المجتمع هو الذي جعلها تحقق نجاحات رائعة في عملية تربية البشر بها ، ولعل أيضاً دولة اليابان خير مثال على ذلك ، فهي دولة لم تحقق تقدمها ونهضتها التي انبهر بها العالم كله إلا من خلال ثروتها البشرية التي أحسن إعدادها و تنشئتها من خلال عملية تربوية رائعة ومتكاملة ومتسقة تستند إلى ركائز فلسفية مجتمعية واضحة وأصيلة .

والواقع أن عملية التربية منذ زمن بعيد كانت عملية سهلة وغير معقدة في مجتمعات كانت تتسم بالهدوء وعدم تعقد وتشابك الثقافات وتفرع العلوم ، فكانت التربية عملية تتم بدون معاناة وبسهولة تتمشى مع سهولة الحياة نفسها ، ذلك أن الوسائط التربوية المسئولة عن إتمامها لم تكن تتعدى الأسرة والمدرسة . كما أن الحياة كانت بسيطة ولم تكن قد ظهرت المستجدات العلمية والتكنولوجية الحديثة وتوابعها ، أما في السنوات والأخيرة ونحن في بدايات القرن الحادي والعشرين فإن عملية التربية أصبحت في غاية الصعوبة والتعقيد وخاصة بالنسبة للدول النامية المستقبلة لثورة العلوم والتقنيات الحديثة ، والتي أصبحت لا تستطيع التنصل من مواجهة تيارات العلم الحديث وثورة المعلومات والاتصالات الحديثة المتطورة حيث أصبح العالم كالقرية الصغيرة ، وبات على هذه الدول التحرك في اتجاه العولمه أو العالمية .

إن المسئولية الواقعة على عاتق التربية في الدول النامية هي حقيقة مسئولية ضخمة وثقيلة ، ذلك أنه من المفترض أن تحافظ التربية على ثقافة المجتمع وكيانه واستقراره وفي نفس الوقت تسعى إلى التغيير والتنمية من خلال الإضافة والتجديد والتحديث ، وذلك كله في إطار الاحتكاك بالثقافات المجتمعية المختلفة والاتجاه إلى العالمية وما يتضمنه هذا من محاذير ومخاوف وقلق من الإغراق في العالمية دون حساب أو ضوابط محددة ، مما قد يشكل خطرا حقيقيا على ثقافة المجتمع الأصلية، وبناء عليه فإن المجتمعات النامية مطالبة بجانب ما ذكرته الدراسة من قبل من متطلبات الحفاظ على ثقافة المجتمع وكيانه واستقراره ، أن تضع القيود والضوابط المرنة على عملية الاحتكاك الثقافي بالمجتمعات الأخرى ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن التربية في هذه المجتمعات ومطالبه بإكساب الإفراد السلوكيات والمعلومات التي تجعلهم قادرين على الاحتكاك الحذر المرن مع الثقافات المتباينه دون جمود أو تخوف طالما أن إعداد هم التربوي كان واضح الأهداف مستندا إلى فكر تربوي واضح وأصيل ، هذا بالإضافة إلى التعامل مع التعددية الثقافية واللغوية في المجتمع النامي بحذر وحيطة بعيداً عن الإفراط والتقليد الأعمى ، على اعتبارا أن هذه التعددية أمر لا مفر منه للاتجاه إلى العالمية ، كما أنه لا بد لهذه المجتمعات النامية التخلص من التعددية التعليمية القائمة بها ، والتي لا توجد في الدول المتقدمة التي تسعى للسير في ركابها في إطار العولمة .

ولكن يبقى دور الدولة كقدوة وكمرشد وموجة ومخطط للسياسات ومتحكم في حركة الحياة في المجتمع ، فلابد للدولة أن تعيد النظر في سياسات التعليم من حيث محتوي المناهج وإعداد المعلم والعمل على القضاء على التعددية التعليمية بما يحقق تكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع وبما يؤدي إلى الوحدة والاتساق في العمل التربوي والتعليمي المصري ، وهذا أمر هام في إتجاه الدولة نحو العالمية والحفاظ على ثقافة المجتمع المصري واستقراره .

كما أن الإعلام المصري علية دور هام ومؤثر في ملأ الفراغ الفكري للناشئة والشباب والكبار بما ينفعهم وينفع مجتمعهم ، فلا بد للإعلام المصري أن تكون له شخصيته وذاتيته بعيدا عن التقليد القائم والمحاكاة لكل ما هو أجنبي خاصة ونحن مجتمع إسلامي عربي نامي يحتاج إلى التوجيه والإرشاد حتى يستطيع أن يقف في مصاف الدول المتقدمة ويسايرها في تقدمها و نهضتها مستفيدا من العناصر المفيدة في ثقافتها ، متمسكا بثقافته الأصلية محافظاً على كيانه واستقراره.

وتقبلوا [/align]