سيكولوجية التعبير الفني لدى الأطفال
عبـد الكريم سليم علي

ربما كان الباحث كوك ***** أول من أهتم برسوم الأطفال، فقد نشر عام (1885)، بحثا عن الرسم وصلته بالتطور النفسي لدى الطفل، واقترح أن يكون تدريس الفنون الجميلة في المدارس على وفق أسس هذا التطور النفسي، وميول الأطفال في مختلف الأعمار. وفي عام (1887) طبع المؤرخ الإيطالي رايزي G. Ricci، كتيباً عن فن الأطفال، وربما كان هذا الكتيب يحوي على أقدم مجموعة من رسوم الأطفال في العالم، وقد شجعت هذه الدراسات علماء أكثر تخصصاً للقيام بابحاث ودراسات أكثر دقة، حيث أظهرت اهمية رسوم الأطفال بوصفها مادة لدراسة دوافعهم وميولهم وذكائهم، وخصائصهم النفسية.
إن العلاقة بين الفن والنفس لا تحتاج إلى إثبات، لأنه ليس هنالك من ينكرها، وكل ما تدعو الحاجة إليه، هو بيان هذه العلاقة، وشرح عناصرها لمعرفة على أي نحو يرتبط الفن بالنفس: أيستمد الفن من النفس، أم تستمد النفس من الفن، أم أن العلاقة بينهما علاقة جدلية؟. النفس تجمع أطراف الحياة لتهب الفن، والفن يرتاد حقائق الحياة ليغني جوانب النفس، والنفس التي تتلقى الحياة لتصنع الفن، هي النفس التي تتلقى الفن لتصنع الحياة، إنها دائرة لا يفترق طرفاها إلا لكي يلتقيا، وهما حين يلتقيان يضعان حول الحياة إطاراً فيمنحانها بذلك معنى، والإنسان لا يعرف نفسه إلا حين يعرف للحياة معنى.
إن علماء النفس ينظرون إلى الفن على إنه انعكاس أو تمثلات سيكولوجية (واقعية أو رمزية) للحالات والظواهر التي تجري في سياق وجودها الاجتماعي والطبيعي، وإنه الوسيلة التي يهدف الإنسان من خلالها، بوعي أو بدونه، إلى تحقيق توازنه النفسي وذلك بالتعبير عما في داخله من مدركات ومشاعر ومكبوتات وتمثلات. ويلعب التاريخ السلوكي للفرد دوراً رئيساً في موضوع التعبير وأسلوبه. واستنتاج كهذا يحتم التسليم بضرورة أن يكون لعلم النفس دور جوهري في فهم هذه الحالة الرفيعة من الوعي الإنساني وقد قاد الاهتمام بالتعبيرات الفنية، ودلالاتها النفسية إلى ظهور ميدان في علم النفس التطبيقي، هو: علم النفس الفني الذي يدرس الخصائص النفسية للإبداع الفني والإدراك والأعمال الأدبية والتربية الفنية والتربية الجمالية وتكوين الذائقة الفنية.




دوافع التعبير الفني لدى الأطفال
الدافع تكوين فرضي وهو عامل وجداني ـ نزوعي، يعمل على تنشيط الفرد وتحديد وجهة سلوكه نحو غاية أو هدف، فالتلميذ على سبيل المثال: يستذكر دروسه ويسهر الليالي بدافع الرغبة في النجاح أو التـفوق، أو الشعور بالواجب، أو الظفر بمركز اجتماعي لائق أو بهذه الدوافع جميعاً. والمعلم في حاجة إلى معرفة دوافع تلاميذه وميولهم ليتسنى له أن يستغلها في حفزهم على التعلم والتوافق، إذ لا يمكن لنشاط المعلم أن يكون مثمراً، إلا إذا كان يرضي دوافع المتعلم، وكثيراً ما يكون تقصير بعض التلاميذ راجعاً إلى ضعف ميلهم او اهتمامهم بما يتعلمون، لا إلى نقص قدراتهم أو ذكائهم.
ولمعرفة دوافع السلوك أهمية بالغة بالنسبة لمعلم التربية الفنية، ذلك أن موضوع الدوافع وثيق الصلة بعمليات الإدراك والتذكر والتخيل والتفكير والتذوق والاولاع بل حتى أشكال التعبير الفني، فهنالك الكثير من الدوافع التي تستثير الأطفال وتجعلهم يظهرون تعبيرات ويؤدون أفعالاً يمكن تصنيفها في إطار العمل الفني، ومن دوافع التعبير الفني لدى الأطفال:
1- الإشباع الحسحركي: بعد السنة الثانية تقريباً، تزداد سيطرة الطفل على حركاته فيمسك بالأشياء ويقبض عليها، ويستطيع أن يمارس (الشخبطة) إذا توافرت الأقلام أو الطباشير، ويكون الطفل في هذه المرحلة مولعاً بحركات جسمه، وما ينجم عنها من آثار يمكن رؤيتها أو سماعها، أو لمسها. وكذلك يكون الطفل خلال هذه المرحلة مشغولاً باكتشاف العلاقة بين أحاسيسه وسلوكه الحركي، أي: إدراك الطفل العلاقة بين حركات يديه ـ مثلاً وبين آثارها على الورق أو الجدران، وهو أمر يعكس قدرة الطفل على إدراك البيئة الخارجية بوصفها شيئاً منفصلاً عنه.
2- التعبير عن المشاعر والانفعالات: يتعرض الطفل شيئاً فشيئاً في سياق تنشئته الاجتماعية لضغوط الكبار، كما يتعرض إلى الكثير من أشكال الصراع والإحباط والكبت لانفعالاته ورغباته التي قد لا تجد طريقها للإشباع، فضلا عن انعكاسات الفقر والحرمان والتجارب المؤلمة، مما ينجم عنه شعوراً بالتوتر والقلق، قد يصل أحياناً إلى حد الاضطراب النفسي، ما لم يجد الطفل الوسيلة الملائمة، التي يمكنه عن طريقها التعبير عن مخاوفه وانفعالاته وصراعاته.
والتعبيرات الفنية واحدة من الأساليب السليمة التي تسمح للمشاعر بالظهور، كما تُيسر الفرصة لإشباع الرغبات التي لم تجد فرصة للإشباع في الواقع، ويعد التعبير الفني من هذا المنطلق وسيلة يسقط من خلالها الطفل مشاعره الداخلية التي تعكس صورته عن نفسه وعن العالم المحيط به، وقد يبدو ذلك واضحاً في تكرار الطفل لرسم بعض المواقف دون غيرها، أو من خلال المبالغة أو الحذف في بعض مفردات التعبير الفني، وهذا الأمر، يظهر أهمية التربية الفنية في بناء شخصية الطفل، إذ ان ممارسة الأنشطة الفنية والتعبير عما تكنه النفس من أحاسيس وأفكار تشعر التلميذ بالراحة والاتزان النفسي، وهي في الوقت نفسه رسالة يقدمها التلاميذ لمعلميهم وذويهم عن ما يعتمل في دخيلة أنفسهم من حاجات ومشاعر ومخاوف.
ويفسر بعض من علماء النفس دوافع التعبير الفني، ضمن الإعلاء والتسامي، والتي تشير إلى أن التعبير الفني وسيلة دفاع لا شعورية يمارسها الفرد للإبقاء على توازنه النفسي بتحويل الطاقة النفسية (من دوافع ورغبات غير مقبولة) إلى أنشطة وفعاليات فنية تلقى تأييد وإعجاب الآخرين، والتسامي بهذه الكيفية، يتضمن تساميا بدوافع الفرد ومشاعره وانتشالها من مستوى بدائي إلى مستوى راقٍ متحضر، وتكاد منجزات الحضارة البشرية أن تكون بالدرجة الأولى نتاجاً لعملية التسامي هذه التي قام بها أفراد المجتمع البشري منذ الخليقة.
ولئن كان التسامي في أساسه عملية لا شعورية، إلا أنه يحدث أيضاً على المستوى الشعوري بقصد وفطنة في أحيانٍ كثيرة، وبنفس الهدف المستهدف في التسامي اللاشعوري.
3- الحاجة إلى التقدير وتحقيق الذات: هنالك حاجة لدى المتعلم تدفعه إلى توظيف إمكاناته وترجمتها إلى حقيقة واقعة ترتبط بالتحصيل والإنجاز والتعبير عن الذات، وبشكل تجعل المتعلم يشعر بهويته وقيمته بين الآخرين، بمعنى: أنه يسعى للقيام بأعمال تجعله يشعر بتفرده وهويته فضلاً عن الحصول على استحسان وتقدير المحيطين به، والأنشطة الفنية تساعد التلميذ، ربما أكثر من أي نشاط آخر، على تنمية مفهوم الذات لدية وشعوره بالرضا عن النفس، ذلك أن أغلب مجالاتها تغلب عليها الناحية العملية الملموسة، كما أنها تمنح التلميذ حرية وإمكانية أوسع للتعبير عن استعداداته وميوله الخاصة، فضلاً عن تأكيد مشاعر المقدرة والتفرد المرتبطة بالإنجاز، ذلك أن لكل عمل فني قيمة تتوقف على مدى ظهوره في طابع مميز له، يختلف في أجزائه وكيانه عن عمل فني آخر.
4- الحاجة إلى الانتماء والاتصال الاجتماعي: إن ممارسة العمل الفني والاستمتاع به، وعرضه في أجواء اجتماعية يلبي لدى المتعلمين حاجة الانتماء إلى الجماعة، فيشعرهم بالتقدير والأمان. والتعبيرات الفنية بوصفها رسائل رمزية موجهة إلى الآخرين من شأنها أن تستدعي استجابات الوالدين والرفاق والمعلمين، وهذه الاستجابات توفر المعلومات لتقويم السلوك من حيث ملاءمته أو تعديله وتشكل الأساس في تعلم التكيف في المواقف الاجتماعية وفي شعور التلميذ أنه جزء من جماعة، بمعنى: أن النشاط الفني هو عملية اتصال فعاله تجتذب الآخرين، وقد تؤدي إلى تكوين جماعات فنية يربطها ويوحدها الاهتمام المشترك، وهذه الجماعات توجد وتستمر بفعل التفاعل الاتصالي الذي يتوافر بين أعضائها، وقد يمنحها تميزاً وحضوراً ملموساً في سياق حضور جماعات أخرى.
5- اللعب والتسلية: يسعى الأطفال في مراحل اعمارهم المختلفة إلى إشغال وقت الفراغ باللعب والتسلية، والنشاط الفني هو أحد مظاهر اللعب المثمر الذي يوفر للأطفال استغلالا لوقت ضائع هم بحاجة لاستثماره بتعلم أشياء جديدة، ويجنبهم بعض من الأزمات النفسية، ذلك أنه عملية ترويحية تسهم في التخفيف عن المعاناة والتغلب على المخاوف.

م
ن
ق
و
ل

تقبلوا تحيات أختكم المحبة
العنود