[SIZE="5"الفن العربي المعاصر تاريخ لم يكتب بعد!][FONT="Georgia"]يبدو تاريخ الفن العربي المعاصر من أشد ذاكراتنا الثقافية غموضاً واختلاطاً, خاصة في بعض مساحاته الاستهلاكية, ويعتور التغييب رموز تمفصلاته, فتبدو ثغرات لصالح طوفان أسماء متوسطة الأهمية, أو فاقدة لأدنى مقاييس القدرة الإبداعية. إن انفجار سكان الطفيليين النجوم فيه يجعلنا نعيد النظر فيما كتب فيه - هذا مع العلم أنه لم يكتب - وحتى كتابة هذه الأسطر - كاملاً - فأغلب مواده التراكمية عبارة عن كتابات حديثة استهلاكية أو مزاجية لا يعول عليها بسبب تواضع اختصاص ومعرفة أصحابها, بمعنى آخر لم يتحوّل تاريخ الفن التشكيلي حتى اليوم - إذا سلمنا بقدر تجزئته وتشرذم الدراسات حوله - إلى مادّة معرفية منهجية, فكل ناقد أو صحفي أو كاتب يغنّي على ليلاه, وكل في فلك يسبحون, حتى أنهم لا يملكون الوقت لقراءة بعضهم بعضا, ننتقل من اجترار إلى اجترار الاجترار ثم إعادة مضغ المستهلك من جديد وهكذا. خاصة ما يبذل من مدائح لنجوم محدودي العدد.

وإذا كانت المساحة السخيّة من الكتابة لا تعدم من إضاءات توثيقية, وشهادات زمان ومكان, ولا تخلو من صلاحية استثمارها والإحالة إليها, فهي مشرذمة, مبعثرة في مواقع صحفية متباعدة, وقد يحتاج فرز الغثّ عن الثمين إلى عمليات مجاهدة معلوماتية معقّدة. وذلك من أجل استخراج جملة مفيدة ورأي مسئول (من قمامة الصحافة اليومية).

إن الأخطر من النصوص المرتبكة البريئة (التي لا تعدو حدود الارتزاق) هي النصوص غير البريئة, التي تمثل جملة من التواطؤات الثقافية: الاستشراقية منها والاستغرابية, ناهيك عن العصبيّات الإقليمية والعشائرية و (الشللية) و (كامبينات) الطائفية, والموالاتية, ناهيك عن السلطوية (التوتاليتارية) العالمية منها والمحلية على مستوى حتى نظام السلطة الإدارية الشخصية, وفن صناعة النجوم والحفاظ على مكاسب النجم, وتمسّكه بالصورة النرجسية على حساب إخفاء تجارب مهمة لزملائه خاصة إذا كان يملك مسئولية أو سلطة إعلامية. يعاني التوثيق والتدوين من شتى أنواع الموجات الباطنية التي تشكّل جزءاً من الهجمة على الثقافة العربية, فبعض النماذج تصعد بصفتها رموزاً للفرانكوفونيّة وأخرى للأنجلوساكسونية والثالثة لم لا? لتعاطفها المضمر أو المعلن مع الصهيونية! لا تعجبوا من شيء, فقد شهدنا كيف سافر بعض الفنانين العرب إلى إسرائيل منذ سنوات قريبة لتهنئتها بعيد ميلادها, ورأينا كيف أن أحد الفنانين المغمورين والمتواضعي (الموهبة) الجزائريين يقيم معارضه في باريس احتفاء شكلياً دائماً بالشمعدان الإسرائيلي.

وأحد مشاهير رموز الحروفيين يخلط الخط العربي بالعبري إذا كنّا نتحدّث عن انتهازية أفراد متواضعي الموهبة, فإن سلم الشهرة وفرض الحضور أشد مع المؤسسات التشكيلية التي قوي تحالفها في السنوات العولمية الأخيرة, فأصبحنا نطالع الأسماء الطفيلية نفسها من الهواة في شتى التظاهرات, وأحياناً بنشاطات مستعارة من طباعة إلى تعهدات معارض وترجمات وسواها, حتى وصلنا إلى حد أصبح فيه مصمّم الإطارات يملك نفوذاً ثقافياً تشكيلياً لا يستهان به, خاصة إذا كان يصول ويجول في بلد مثل باريس.

أيقونة محلية
كيف يمكن أن نعتمد على وثائق نقدية لا تملك الحد الأدنى من المسئولية, أحد النقاد المرموقين يقرر (بمحاباة صليبية لا تسمن ولا تغني من جوع) في واحدة من الشهادات بالغة الأثر والمسجّلة في كتاب لا يُستهان بسلطته الثقافية أن فاتح المدرس في سوريا مثله مثل إلياس زيّات يستقي فنّه من الأيقونة المسيحية السورية, والواقع أن فاتح يتشرّف بمثل هذه الملاحظة لو كانت صحيحة ولو لم تسكن صبواته الأشكال السورية القديمة الكنعانية والآرامية, في حين أن أبرز أسباب أصالة زميله إلياس زيّات تخصّصه في الأيقونة المحلية, ووصل أمر هذه المحاباة أن أحد النقاد الفلسطينيين الذين يملكون مصداقية لا يُستهان بها أيضاً كتب مقدمة عن معرض فلسطيني بالغ الأهمية بأن الفن الفلسطيني جملة وتفصيلاً أصوله مسيحية. عوضاً عن دراسة هذه الأصول فعلياً في بعض التجارب في بلد مثل فلسطين وسوريا من الصعب تفريق أصول العناصر التوحيدية في اللوحة سواء أكانت مسيحية أم إسلامية.

سنعثر على (الديماغوجيّة) نفسها التي تتلاعب بالحساسيات بنيّة غير بريئة في تأريخ الفن المصري وانفصام القبطي عنه, دعونا نتأمّل الخصائص الأصيلة التي تجمع حامد ندا وآدم حنين, كيف يمكن أن نفرّقهما على هذا الأساس? أما في لبنان فحدّث ولا حرج, ثم ترسيخ الانفصام التشكيلي البربري عن العربي في بلاد المغرب العربي وهكذا.

فاتنا الحديث عن وزارات الثقافة والمؤسسات التشكيلية الرسمية وما يفرزه ترهّلها من ضجيج موالاتي إعلامي, ومحافل خطابية وكتابية مدائحية, بما فيها اللقاءات الشابّة التي تجري ولا تحتمل أي كتابة صدوقة أو أدنى نصيحة أو رأي نقدي مخالف. ومهما يكن من أمر, فإن مثل هذه الأحوال ترتبط بالبطانة وليس برأس الهرم, والذي غالباً ما يكون نيته حسنة سواء أكان دائماً ومؤسساً في القطاع الخاص الحر أو حتى مسئولاً متنوّراً, لا تعدم الحياة من محبّي الفنون والمتوازني الشخصية. في شتى هذه الحالات تشرنق عصبة من الطفيليين يقيمون معادلة من تبادل المنافع والنجوميات النرجسية والبيع والاقتناء وتقاسم السلطة الإعلامية والشهرة والطباعة وتبادل المعارض, بغثّها وسمينها, وتتحول التظاهرة التشكيلية أو مؤسستها إلى نفعية قبلية وتقاسم غنائم وتخاطفها بأسرع من وأد المشروع بعد فترة مراهقة خاطفة.

يستطيع القارئ بعد ذلك تخيّل تواضع مصداقية ما تحفل به كتابات هذه المناسبات (التي تشكّل الجزء الأكبر من مساحة التوثيق) وأسباب اختزال الفن العربي المعاصر إلى باقة نجوم من فنانين ونقّاد ومحابين لا تجمعهم إلا عقدة نرجسية واحدة هي دفع التهمة الذاتية بأنهم دخلوا محراب الفن بالصدفة أو بالقسر, محاولين نقض فكرة النخبة, وأنه من الواجب توسيع ديمقراطية المواهب, عملاً بتوزيع مكاسب ما خُصص لتشجيعها, وهكذا يتساوى الذين يعلمون بالذين لا يعلمون, بالعكس فإن الطلب يزداد على النقّاد غير المختصين وتوسيع وهم مصداقيتهم الإعلامية حتى يتم كتم أنفاس وأقلام وأصوات الباحثين والمجتهدين من الفنانين والنقّاد.

التاريخ الانتقائي
يغلب على شراذم صفحات النقد في الصحافة وحتى في سواها كما هي الحال في مصر التأريخ الانتقائي, والأساس هنا غالباً العصبية النهضوية, فبالقدر الذي يقترب فيه أسلوب الروّاد أو المخضرمين أو المحدثين من النماذج الغربية (وسوء فهمها) يكون الفنان أكثر شهرة, ظُلمت أو ظلّلت أعمال تعتبر اليوم من أشدها خصوصية ضمن هذا القياس التعسّفي, فحامد ندا لا يقل عبقرية عن سيد درويش, وتوفيق الحكيم يذكر ضمن قائمة طويلة أو يغيب أو ننتظر دوره حتى يأخذ موقعه من الذكر. استمرت هذه المحاباة, فنالت من تجارب معاصرة مثل رباب النمر, لأن فنها لا يجاري الموضة الانشائية, لنتصوّر أن عبقرية مثل جورج بهجوري يتنازع حكمها رأيان نقديان متعارضان: الأول يتعصّب للطرف القبطي في تجربته, والثاني يخرجه من اللوحة تحت تهمة (الكاريكاتير), لقد أصبحت القدرة على الرسم اليوم تهمة, وكان على هؤلاء إخراج الفنانين: جويا ورومييه وبيكاسو وسيغي وتولوز لوتريك, والتعبيريين مثل غروز وغرومر وبكمان وبازلتز.

كيف يمكن أن نعتمد على توثيق لفن شاهد بالغ الأهمية مثل البهجوري بشهادات بهذه الدرجة من الإسفاف والمجانية?
ثم إن التمسّح بمصداقية نجوم الأدب رفع من هواة حتى غطّت على أمثال هؤلاء, خاصة أن فنون الطباعة تحتمل أحياناً الاختلاسات ومحدودية الإمكانية بسبب إغراءات الآلة. وهذا لا ينفي حالات استثنائية طباعية مثل كمال بلاطة أو عمر خليل أو عبدلكي وخاصة الحفّارين العراقيين الذين ملكوا موقع الريادة في هذا الميدان الكرافيكي ولا يتسع المجال لذكر الجميع, فموضوعنا هو الطرف الآخر الذي يستسهل الطباعة وانتشارها لتغطية قصوره الفني.

ولادة موهومة
ألا يحق لنا بعد ذلك أن نرى تاريخ الفن العربي المعاصر وكأن مكتبته التوثيقية مازالت شبه خاوية?
دعونا نعد بهدوء إلى بداية إشكالية هذا التأريخ النقدي:
لعل أفدح الخطايا النقدية التي نقترفها في كل مرة نهمّ فيها بالتأريخ لأي محترف عربي معاصر, تتمثل في سعينا العبثي عن نقطة الولادة الافتجائية الموهومة, مستسلمين إلى سذاجة البداهة النهضوية: أن بداية الفن التشكيلي انطلقت من الصفر من الخواء والعدم المطلق التشكيلي المحلي, وكأننا هابطون من كوكب آخر لا يعرف أي ذاكرة للون أو الخط, نتلمّس هذه النقطة مع بداية القرن بما يخص تاريخ المحترفات المشرقية العربية, ومنتصفه بما يتعلق باستهلالات محترفات الخليج, وما بينهما بما يخصّ تأسيس الفن المعاصر في بلاد المغرب العربي, وهنا نقع على مغالطة معاكسة, تربط تأسيس المحترفات بالاستقلال, رغم أن التصوير الذي كان يسمّى شعبياً كان يمثل خندق دفاع وحماية ومقاومة ثقافية متقدّمة, وصل بالفنان الجزائري محمد راسم أن يعيد عقيدة أصول رسوم المنمنمات الإسلامية (رسوم المخطوطات العباسية والصفوية والمغولية والعثمانية وسواها). كل هذا كان يتم أثناء الاستعمار الفرنسي, وهو ما يفسر تأسيسه للمعاهد الأولى مثل تطوان في المغرب ووهران في الجزائر وبشكل مبكر منذ الأربعينيات, أي أن هذه المعاهد التي تشكل بؤر التأسيس الحقيقي للفن المعاصر لاعلاقة لها بالتحرر الثقافي من الاستعمار الفرنسي, بعضها تمّ بنوع من التغريب القسري مثل فرض اللغة الفرنسية بدلاً من العربية, كذلك فإن محاولة الإخصاء تمت في شتى أعضاء الجسد الثقافي من العمارة إلى الموسيقى ومن التعليم إلى اللغة, ومن التشكيل إلى الصناعات الحرفية وسواها, وقد خلفت خاصة في مصر بعد الاستقلال الحس النهضوي البنّاء الذي أخرج الثقافة التشكيلية من خمول ونوام أهل الكهف, ولكن الحساسية النهضوية تمت من خلال استقبال الآخر الثقافي من قبل الذات الثقافية, ولكن مفاهيم المعاصرة والحداثة والعولمة التي تلت هذه المرحلة وصلت في اندماجها الآخر إلى حدود التفريط بالذات من اللغة إلى الصناعة.

ولكن, ماذا يعني بالضبط تاريخ ما درجنا على التسرّع بنعته: (بداية الفن المعاصر في كل قطر)? يوثق ربما للبشائر الأولى في ممارسة طقوس اللوحة الغربية, والتي درجنا على نقل تسمية وصفتها (بلوحة الحامل أو المسند), يعلن وصولها مثل بقية التقنيات الثقافية النهضوية (حتى لا نقول الاستشراقية أو الاستعمارية).

تبدو حالة (محترف البحرين) مثالاً نموذجياً, فقد حفظت سيرة جماعة الروّاد في بداية الخمسينيات, كيف كانوا يستعيرون مناهج لوحات المستشرقين في تصويرهم الزيتي, يرسمون بيئة مناظر القرى المتاخمة لمدينة المنامة كل يوم جمعة, تحفظ هذه السيرة انطلاقة سلبية أخرى تتمثّل في غرس السياح عادة اقتناء اللوحة التذكارية الفولكلورية السياحية, هو ما أسس لصيغة المناظر الاستهلاكية التسويقية, والتي مازالت اللوحة الخليجية عموماً تعاني من رواسبها الاستشراقية حتى اليوم, تحقق اللوحة هذه مواصفات ما يتخيله ساكن باريس ولندن من تخلف المنطقة, يستبدل البيت بالخيمة والحصان بالجمل والغيطان بالصحاري والحضارة الراسخة بالترحال البدوي.

نقابات روحية
تتجاوز هذه الطريقة المتعسّفة في التأريخ مساحة الفن العربي والإسلامي وما قبلهما من نبطي وثمودي ودلموني وسواها. تفترض خواء الساحة الذوقية من النشاط الصناعي - التشكيلي الذي تندمج فيه المهن بصناعة (الجمال) مثل صناعة المراكب وتزويق الخشب والأثاث والحياة الداخلية في البيوت والأدوات وملايين من عناصر الحياة اليومية والتي تعرض في الأسواق الساكنة والمتحركة.

تغفل هذه الطريقة وجود (النقابات الروحية) التي كانت تراقب تجويد هذه الصناعات مثلها مثل صناعة الموسيقى والشعر والهندسة. وعوضاً عن ملء فجوة الانقطاع والبحث عن الترابط العضوي ببصرية اللوحة والمنحوتة والمطبوعة الاستهلالية, وتراكم الحساسية الثقافية, أقول بدلاً من ذلك نعفي أنفسنا من ركام هذا التراكم ونبدأ كل شيء من الصفر, هكذا دون ذاكرة أو تقاليد فنية وكأننا - كما ذكرت - هابطون من عالم آخر, منقطعون فيه عن النشاط الإبداعي الإنساني مثل قرود الغابة.

لن نجد لمثل هذه التهم الذاتية التبعية, أي مثال مقارن اجتاح فيه الأوربي إلى ثقافة أخرى, حتى الفنان الفرنسي بول جوجان لم يدّع أنه قلب فنون جزر المحيط الهادي (بما فيها تاهيتي), بالعكس يعترف بنقل فنونهم عبر لوحته إلى باريس, كما نقل الكثير في عهده أصول الفن الإسلامي والبوذي (الاستامب الياباني) والطاوي والأسترالي والإفريقي بأنواعه.

لم تدع إنجلترا أنه بفرضها آلة الهرمونيوم الموسيقية على الفرق الإنشادية الصوفية في باكستان, طبعت تقاليدها الموسيقية, نجد هذه الآلة اليوم جزءاً من الإنشاد العرفاني للإخوة صبري ونصرت فاتح علي خان, ولو كان استخدام الأداة يقلب الفنون وخصائصها لكان كل ما هو زجاج معشّق غوطي ينتسب إلى الأموي, هل يكفي أن يستخدم الأوربي أفران شوي السيراميك حتى تصبح تجربته فنّاً إسلامياً?. لماذا إذن لا نبحث عن خصائصنا التراثية التواصلية في التشكيل بدلاً من التوقف عند مطلق غربية الأداة وهي (لوحة الحامل)? - لقد توصّل بعض النقاد المتعصبين في لبنان إلى اعتبار أهل الفن اللبناني يرجع إلى كنائس الفاتيكان, عوضاً عن البحث عن العكس وهو تأثير الأيقونة الشرقية المالكية السوريانية النّصطرية اليعقوبية والأنطاكية على الفاتيكان مروراً من بيزنطة? تشبه هذه الالتفافات (الأرابيسكية) المتنصّلة من الأصل العربي اعتبار السيد المسيح مولوداً في روما وليس في بيت لحم.

لعله مما يثير العجب أننا لا نلتزم بالسعي الاختزالي نفسه عندما نخوض في حداثة الموسيقى والأدب, فبداهتها تقوم على عدم القدرة على إخصاء أصالة ذاكرتها, وهنا نضع أصبعنا على الجرح المفتعل الذي خلّفه التعسّف الاستشراقي وثقافة الاستعمار. فقد فرض هؤلاء أحادية المصدر الثقافي المتناسخ عن الرحم الإغريقي - الروماني في الثقافة التشكيلية, مما يجعل بالتالي ذاكرتها عرضة للشبهات والانقطاع, إلا إذا وجدت لها ذريعة للالتحاق (الهلنستي) بتبشيرات سنابك اسكندر المقدوني وسواه.

في هذا الالتباس الاستشراقي لفقت أوهام تحريم الصورة, والتي لاقت وسوساتها ترحاباً لدى المعادين بطبعهم للفنون على غير حق - لا نحب أن ندخل في جدل مكرور أعطى فيه مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده (منذ بداية القرن) الحكم الفصل, مفنّداً وناقضاً أدنى شك تقوم عليه هذه الدعوى, ثم تعاقبت شروح المتقدمين من تلامذته من أمثال الدكتور محمد عمارة وآخرين.

وهذا يعني أن تغييب التوثيق والتدوين والتأريخ ليس بريئاً دوماً, خاصة أنه يلبّي مرابح مؤقتة تسرّبت من خلالها ذخائرنا التصويرية بالملايين إلى التجار خاصة المخطوطات ورسومها والمنحوتات وسواها, تباع في سوق نخاسة المزاد العلني في باريس على مشهد من أبنائها الغرباء, مخطوطات لا تقدّر بثمن, ورسومها كذلك, وتماثيل تدمرية ونبطيّة وغيرها. ألا يشارك الناقد الذي يثبت نقطة الصفر في البداية النهضوية بتكريس هذه الهجمة الثقافية?

لملمة الشظايا
إن مشكلة ضياع الذاكرة التصويرية ورسومها وميكانيكها تثبت أن هزائمنا الثقافية أشدّ مضاء وهولاً من هزائمنا العسكرية, وإلا فماذا يعني أننا غير قادرين اليوم على كتابة تاريخ فن لأمة عربية خلال مائة عام?

علينا أن نجمع شتات ما كُتب من صحف ومجلات ومؤلفات لا تتجاوز (عدد أصابع اليد) ودوريات إدارية مترهّلة ودراسات مبعثرة في طيات الدوريات الثقافية - وخاصة ما كتبه الفنانون مثل شاكر حسن آل سعيد وسمير تريكي أو محمود حماد وسمير صايغ, أو الذين كتبوا من قبل نقاد متنورين وهم قلة, مثل بلند الحيدري وعلي لواتي وبدر الدين أبو غازي وضياء العزاوي - وبعض الموثقين خاصة في المحترف السوري من الفنانين.

علينا أن نبحث بعد لملمة هذه الشظايا والقصاصات عن التيارات وليس عن الأشخاص, فالفنانون الذين تنتشر طباعاتهم وتوثيقاتهم من أمثال بلكاهية وعمر حمدي وجابر علوان هم الأقل أهمية. وإذا حاولنا ترصّد تماوج التيارات والتجمّعات (التي قضى عليها غياب الديمقراطية الثقافية), فعلينا أن نتخلص من كل الأفكار المتعجّلة النقدية السابقة, فالتيار (الحروفي) من الأفضل رفع اسمه إلى كرافيكي أو إشاراتي أو سواه, وذلك حتى تبدو اللوحات الخطية المحلاة بالتحليات, وأصول وأقلام الخط مرحلة تطوّر طبيعية, وأنه ليس فنّاً سُرق من جدران المدينة الصناعية الغربية, في تلك الحالة يعاد تصحيح علاقة خطاطين مبدعين غير سكونيين مثل محمد سعيد الصكار ومنير الشعراني وعبدالقادر أرناؤوط والسليم وناصر الموسى وسمير صايغ وسعيد طه ومهدي مطشّر.

نحاول رأب الصدع ابتداء من هذا الاتجاه معتبرين أنه لا توجد حداثة دون ذاكرة, فالحداثة ما هي إلا تتابع لحداثات وذاكرات متعاقبة, فصفة الحداثة نسبية التفضيل. وبالنتيجة فمن الضروري عدم تناول المقياس (البارومتر) الجمالي من خارج مقياس تاريخ الفن العربي, وإلا أعيد إلى حشد نماذجه الجاهزة المنقولة التي تتعامل حتى اليوم بعنصرية اتجاه الفنون ذات النسغ المحلي. علينا ألا نفرّق في المغرب بين نخبوية محمد المليحي وشعبية فاطمة حسن, باعتبار فن عبدالكريم وزاني برزخاً متوسطاً بينهما, وقد يكون الأبلغ حداثة, إذا ما انتقلنا من المغرب إلى سوريا, كان لابد من التعامل مع نخبوية نذير نبعة بالاهتمام البحثي نفسه مع زوجته شلبية إبراهيم.

علينا أن نتخلص من الاستشراقية ومقاييسها المغروسة في اللاوعي بالاحتقار العام لكل ما هو محلي, والتصفيق لكل ما يراهن على عدم معرفتنا به من مراهقي أوربا.

المهم أن نملك القدرة على التمييز (حتى في ذخائر التراث) بين ما هو نخبوي وما هو استهلاكي, حتى ولو كانت الأسماء تمثّل نجوماً توارثنا الإذعان لريادتها دون نقاش, مثل الملكية المتوارثة, ستسقط عندها أسماء كثيرة وتظهر مفاصل أساسية مضمرة, وهنا تقع أصالة الفن العربي المعاصر: في الأسماء والتجارب التي لم تباركها السلطات الإعلامية والتواطؤات غير المنظورة, بل إن بعضها مُحي اسمه وأعدم من تاريخ الفن والنقد, لنتذكر أهمية صلادي في المغرب والصمت الذي يلف تجربته.

وكذلك عاصم أبي شقرا الفلسطيني الذي توفي مبكراً عن عمر الثلاثين, وكريم رسن وزملاءه الذين حجبتهم الحروب في العراق, وفيصل سمرة البعيد أبداً عن الإعلام بسبب وجوده في الخارج, وكذلك نبيل نحاس اللبناني المقيم في الولايات المتحدة, وقس على ذلك الآلاف.

فقدت سوريا الفنان برهان كركوتلي مع الناقد العبقري محمود حواء إلى غير رجعة, وكذلك أحد أبرز حفاريها يوسف عبد لكي, بعضهم يخفت ذكره وبعضهم يبقى, يعاني الكثير من النفي الداخلي والخارجي, من ظلم حكم صالة العرض, أو المؤسسة المترهّلة أو الزملاء الذين تفتك بهم الغيرة وحب التدافع بدلاً من التحالف, أما أغلب شهادات النقد الغربية التي يحملها معهم البعض إلى الداخل فما هي إلا شهادات زور لأن المهم عبور تجربتهم إلى جسد الفن العربي المعاصر وخصائصه المتميّزة, وكما يجري في كل أصقاع الأرض, في الهند والصين وأندونيسيا واليابان, لا أحد من هؤلاء يلهث خلف سراب حداثة الآخر إلا نحن, حتى مذيعة التلفزيون نختارها شبيهة بالغربية الشقراء, وممثلونا كذلك, وموسيقانا كذلك, ولوحتنا الفنية كذلك.

وحتى نعوّض غياب التاريخ والتوثيق من جسد الفن العربي المعاصر, علينا أن نتحالف بكل شيء من الصفر, نحتاج إلى مكتبة بحوث وتوثيق لهذه التيارات وليس عرضاً نرجسياً للأسماء إرضاء لمجموعات النجوم هنا وهناك, وإلا تحوّل التاريخ إلى دليل هاتف وقاموس إحصائي نقابي جديد.

وهنا تبدو ضرورة مراكز الأبحاث والدراسات الميدانية المنبثقة عن الجامعة العربية واليونسكو, وتعاون كليات الفنون ووزارات الثقافة بأداء واحد متناغم من أجل صناعة تاريخ الفن العربي لأول مرة.[/FONT][/SIZE]

منقول
ولكنه موضوع اردت ان تستفيدوا معي منه
وهو دراسة مقننة لتاريخ الفن العربي المعاصر
مع خالص احترامى للجميع