3- وظائف النقد الفني
لقد تبين لنا من خلال الحديث عن أهمية النقد الفني في الثقافة بشكل عام وفي التربية الفنية بشكل خاص، أن هذه الأهمية ناتجة عن تأثير النقد الفني فيمن يوجه إليهم. ويتم تحديد هذا التأثير تبعاً لنوع الفئة من الجمهور المتلقي الذين يتم التوجه إليهم بالكتابة أو الحديث في المقال النقدي. وتبعا لذلك يتخذ النقد الفني مقوماته ومحتواه للقيام بوظيفته ضمن مجموعة من الأشكال النقدية التي حددها فيلدمان (1987) ( عند مجموعة من الباحثين 1993)، في الأشكال النقدية التالية وهي: النقد الأكاديمي والنقد التعليمي، والنقد الصحفي، والنقد الشعبي. (ص 50-52)
النقد الأكاديمي (Schoolarly Art Criticism): وهو "نتاج تام التطور لدراسة طويلة متخصصة، وحساسية نقدية مصقولة. وظيفته هي توفير ذلك النوع من التحليل، أو التأويل، والتقويم، الذي يجعل التجرد العلمي أو عدم التحيز ممكناً." ويحتاج هذا النوع من النقد إلى فترة طويلة لتحقيقه. الأمر الذي يمكن النقاد الأكاديميين من أن يصدروا أحكاماً على الفن الجاد، لأنهم تزودوا بحماية التحصيل الأكاديمي والبحث عن الحقيقة النزيهة. والذي يأتي من خلال الدراسة الطويلة. ويكون كذلك نتاج تطور مستمر تعرض له الناقد فصقل عنده حساسية نقدية تجعله قادراً على إصدار حكم تقديري. (ص51)
ويتعرض النقد الفني الأكاديمي لدراسة الأعمال الفنية من منطلقات علمية تحدد لها الأهداف وتوضع الفرضيات لتقييم الأعمال الفنية وفق معايير وقواعد محددة. ويتم نشر المقال النقدي الأكاديمي في أبحاث علمية أو ضمن دوريات متخصصة صادرة عن هيئات معترف بها أكاديمياً. ويهتم النقد الأكاديمي كذلك بدراسة القيم الفنية والأساليب التي ارتبطت بفترات زمنية سابقة تميزت برؤية فنية لم تجد التشجيع في وقتها، ولكنها أثبتت وجودها لاحقاً بسبب الدراسات والأبحاث النقدية التي أثبتت تمتع هذه الأساليب بالقيم الفنية العالية التي لم تدرك في تلك الفترة. ويقوم النقاد الأكاديميون بدراسة تلك الأعمال بناءً على دراسة علمية للأساليب تكون قائمة على البحث الدقيق والملاحظة التي تستنتج من تلك الأعمال ما هو ملائم للذوق العام في الوقت الحاضر.
النقد التعليمي (Pedagogical Art Criticism): ويهدف النقد في التربية الفنية إلى "تطوير نضج وإدراك الطلاب الفني والجمالي... ويعمل على تمكين الطلاب من المقدرة على إعطاء الأحكام النقدية بأنفسهم، إضافة إلى مقدرتهم على الحكم على أعمالهم." ويقوم معلم متخصص بتعليم النقد للطلاب، يكون لديه معرفة بالأساليب التربوية في تعليم الفن للصغار والموهوبين والشباب، ويكون عارفاً بالفن الراقي والساذج، والفن التقني البارع وغير البارع، وفن الرواد والكادحين، والمجددين والمقلدين. فتعليم النقد الفني يحتاج إلى معرفة متنوعة بشكل كبير في الفنون. ثم يكون دوره متمثلاً في تحليل وتأويل عمل الطالب حتى يتعلم كيف يحلل ويفسر عمله، ويدرك الاتجاه الذي اتخذه في العمل. وبالنسبة للمراحل الأولى يقوم المعلم بالنقد في أثنــاء تنفيــذ العمــل الفني على أن لا يفــرض على الطـالب شكـلا من التبعية الفنية. (مجموعة من الباحثين 1993، ص51)
ومن خلال ما تم طرحه عند الحديث عن أهمية النقد الفني في التربية الفنية فإن تعليم النقد الفني يتطلب مساعدة المتعلمين على تطوير مقاييسهم الذاتية في نقد الأعمال الفنية، تلك المقاييس التي تتناغم وظهور شخصية فنية. كما يجب تقوية قدرات التمييز الجمالي بالموازاة مع الخبرات والمهارات التقنية. فالنقد التعليمي يتم من خلال الممارسة الحية للإنتاج الفني.
النقد الصحفي (Jurnalistic Art Criticism): يعرف فلدمان (1987) (عند مجموعة من الباحثين 1993) النقد الصحفي بأنه "نوع من الأخبار يقصد منه إعلام القراء عن أحداث عالم الفن للاحتفاظ بولائهم لصحيفة أو مجلة معينة... وطبعاً تتصف كتابة المقال بأسلوب يحاول إيجاد مرادفات كلامية للأعمال الموجودة في المعرض." ويتخذ هذا النوع من الكتابة الفنية من وجهة نظر فيلدمان شكل التقرير الذي يصف ما بداخل المعرض من أعمال فنية، وتكون في الغالب بقلم أحد محرري الصحيفة مما يعرض هذا النوع من النقد إلى مخاطر عدم الدقة والقرارات المتسرعة في الحكم على الأعمال الفنية، واستبدال التحليل بالرأي الذاتي، ومحاولة الكاتب الصحفي الظهور على حساب الفنان. (ص50)
ويرى الباحث أن ما يتوجب من خلال هذا الشكل من أشكال النقد على الكتاب الفنيين في الصحافة هو أن يشبعوا فضول القراء بوصف الأعمال الفنية التي لا يمكنهم رؤيتها. وعليهم أيضاً (أي النقاد) تقديم تفسيرات وتحليلات نظرية وفلسفية وجمالية لما تحتويه اتجاهات الأعمال الفنية الموصوفة. إن تقديم الكتاب لهذا النقاش والجدل حول الأعمال الفنية سوف ينعكس على الساحة التشكيلية وعلى الفنانين بالتطوير والازدهار، وينعكس على الجمهور بالتعبير عن ميولهم نحو الفن بطريقة فعالة. ولا يمكن لأي شخص إنكار دور النقد الصحفي في مساعدة بعض الفنانين على تحقيق الشهرة من خلال ما يكتب عنهم.
النقد الشعبي (العام) (Popular Art Criticism): وهو الذي يقوم على خلفية حكم الجمهور سواء أكانوا مؤهلين أو غير مؤهلين فنياً، ويعتبر رأي الجمهور في الفن وفي الأعمال الفنية, مؤثراً بدرجة ما، ويجب أن يعطى الاهتمام الكافي. يقول مارك توين Mark Twain (عند مجموعة من الباحثين 1993) "إن الجمهور هو الناقد الوحيد الذي يستحق رأيه شيء من الاعتبار." (ص52) والاهتمام بنقد النخبة من المفكرين والنقاد لا يلغي الاهتمام بنقد العامة فهو يمثل رأي شريحة من المجتمع لهم علاقة بالفن ويتأثرون به ويؤثرون فيه.
ويعد النقد الشعبي قليل التغير بحكم أن رأي العامة ثابت، وهم متمسكون بالحكم على الفن بناءً على الرؤية الاعتيادية وعلى واقعيته. ويعتبر رأي العامة ثابت عبر التاريخ، لذلك لا يمكن تجاهله ولا تجاهل المقاييس التي يقوم عليها. وأهم هذه المقاييس أنه يجب أن يكون الفن نابعاً من الحقائق البصرية، ويحاكي الواقع المرئي. إلا أن كثيراً من الفنانين لا يلتزمون بهذا الأمر كثيراً، نظراً لوجود الكاميرا وأدوات التكنولوجيا القادرة على نقل الصورة الواقعية بأمانة. لذا كان من واجب التربية الفنية أن تدرب الأفراد على تقبل الفن المعاصر برؤية نقدية جديدة قائمة على فهم الشكل والتكوين القائم على المضامين الفكرية.
ثانيا أسس النقد الفني وفلسفته الجمالية
أولاً: أسس النقد الفني
يقوم النقد الفني على مجموعة من الأسس التي تؤثر على تقبل الأشخاص بمختلف ثقافاتهم للفن وللأعمال الفنية. يمكن تلخيص هذه الأسس في الأساس النفعي، والمعـرفي، والأخـلاقـي، والتـاريخـي، والاجـتمـاعـي، والنفســي، والجمالي البحت. (إسماعيل 19968، ص88-126)
1- الأساس النفعي: وهو القائم على وظيفة الفن النفعية. فقد نظر الإنسان منذ القدم إلى الفن في إطار الفائدة المادية التي يجنيها منه، وفي إطار الإحساس بالمتعة التي قد يشعر بها عند مشاهدته للأعمال الفنية. وقد ارتبط تقبل الفن في مختلف الحضارات القديمة بالمنفعة المتمثلة في وظيفة الإنتاج الحرفي، حيث كان إنتاج المهن الفنية يلبي حاجة الإنسان اليومية ويجعلها أسهل وأجمل. وكانت المنفعة التي يجنيها الإنسان من الشيء الوظيفي، تؤثر في حكمه بجماليته. (العطار 1994، ص8)
لقـد اختلف الفلاسفـة حول الجمالية النفعية، فقـد أصـر أفلاطـون (Plato 428-347) (عند إسماعيل 1968) على ضرورة النفع في الجميل. فمن وجهة نظره، أن الأشياء الجميلة هي الأشياء الممتعة والنافعة. وأن كل جميل طيب وأن الطيب نافع. ولكن هناك رأي مخالف يقول باختلاط النافع بالشر في بعض الحالات وذلك ينفي الجمال عن النافع في المطلق. ورغم رأي المعارضين لفكرة ضرورة جمال الشيء النافع إلا أن ارتباط المنفعة بالحكم الجمالي على الأشياء قد تعرض للجدل، وكان هناك رأي يقـول بعـدم ضـرورة الجمـال في الشيء النـافـع، وكـذلك عــدم ضرورة النفع في الفن. (ص88)
ويبقى التساؤل قائماً "هل الجميل هو النافع حقاً؟". فالنفع لا يتحقق في الأشياء البعيدة عنا وليس لها تأثير علينا، وأنه متى انتفعنا بهذه الأشياء حكمنا بجمالها. فالحكم الجمالي القائم على أساس المنفعة، حكم نسبي يختلف من شخص إلى آخر. والفائدة في العمل الفني التي تكون سببا في الحكم بجماله، قد تكون في حالات أخرى وعند أشخاص آخرين ليست كافية أو مبررة. يقول إسماعيل (1968) "فالمنفعة في الفن ليست قيمة في الشيء المحكوم عليه وإنما هي أثر أو امتداد له." (ص91)