توجهات ما بعد الحداثة (Post Modernist Approch): ظهرت الحداثة في منتصف القرن التاسع عشر بعد الثورة العارمة التي عمت أوروبا، ليتحول المجتمع الأوروبي من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي متحضر. وما بعد الحداثة هو تعبير يدل على الأسلوب الفني الذي تطور من خلال الاتجاهات الرافضة للنظرية الشكلية، وكان أحد منظري ما بعد الحداثة في النقد الفني في الثمانينات من القرن العشرين الناقد روزاليند كراوس (Krauss) الذي ركز على موضوع النقد والطريقة النقدية وعلى المضامين التي يجب أن تحملها التعبيرات التي سيبني عليها الناقد تقييمه للعمل الفني قبل إصدار الحكم النهائي على جودته. وقد رفض كراوس أسلوب النقد الذي يقوم على الوصف ودراسة السيرة الذاتية للفنان والأيقونغرافية واعتبرها أساليب جامدة. ولكي يستطيع الناقد أن يتبع أسلوب كراوس في النقد، لابد له من دراسة النظريات الفلسفية ودراسة الانسانيات ودراسة الأدب ثم يوفق بينها ليكشف بنائية العمل الفني من خلال المنطق وأسلوب التعبير. (Gill 1999, P.110)
ويستطيع أن يقدم الناقد العمل الفني من خلال هذه النظرية وفق ما يعبر عنه الفنان في العمل الفني والانفعالات التي يؤثر بها على المتلقي أو المشاهد. وتتضح هذه الانفعالات من خلال ظهورها في العمل الفني ، بحيث يستطيع النقاد والمتلقون أصحاب البصـيرة والخيـال من التعـرف عليهـا والتعـاطف مـع الفنـان فيمـا يقدمـه من تعبيرات. (Lankford 1992, P.8) وأحد الحركات الفنية التي تعاطف نقادها مع الفنان، حركة النقد النسائية (Feminist Movement): وهي تهتم بالفنون النسائية ومضامينها وقضاياها الاجتماعية والنفسية والسياسية، وقد ظهرت هذه الحركة في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية عام 1985، وهي تابعة للحركة النسائية الأمريكية التي ظهرت في الستينات من القرن العشرين الميلادي. وهي نسائية صرفة بحيث أن فنانيها ونقادها ومؤرخي الفن فيها من النساء فقط. (Gill 1999, P.114)
وفيما يلي بعض أهم النظريات التي ظهرت وتناولت مضامين العمل الفني منذ ظهور توجهات ما بعد الحداثة:
النظرية الأيقونية (Iconographical Approach): وهي دراسة معاني الرموز الظـاهـرة في العمـل الفني المـراد نقـده بعـد وصفهـا. وقـد عرفتهـا فيتزباتريك (Fitzpartrick 1992) بأنها هي: "دراسة الأشكال والألوان والرموز من خلال المعاني المفهومة سواء عند الفنان أو المتلقي للعمل الفني، داخل إطار حضاري أو فلسفة اجتماعيـة مشتركـة." (ص5) وتعرفها جيل (Gill 1999) بأنها هي: "دراسة المضامين الرمزية للشخوص والأشكال في العمل الفني." (ص107)
كان من أبرز رواد هذه النظرية أستاذ تاريخ الفن الألماني إروين بونوفيسكي (في القرن العشرين) الذي وضح مصطلحين من خلال دراسته للقيم الرمزية في الأعمال الفنية التاريخية، أحدها الأيقونوغرافية (Iconography) ويهتم بالمعاني العامة أو الشائعـة للرمـوز الظاهـرة في العمـل الفني. أمـا المصطلح الثاني فهـو الأيقونولوجي (Iconology) ويهتم بالمعاني الخاصة بالرمز من خلال ارتباطه بفكر الفنان وحياته واهتماماته، وكذلك ضمن الثقافة في المكان والزمان التي ينتمي إليهما الفنان والعمل الفني موضوع الدراسة. وعادة ما تكون هذه الرموز خفية حتى على الفنان ذاته، ويحاول الناقد اكتشافها. وتعتبر هذه النظرية أحد الطرق العلمية الدقيقة في نقـد الأعمـال الفنيـة للبحث عـن المضمـون ومعـاني الأعمـال الفنيـة. (Gill 1999, P.108) وتسعى هذه النظرية إلى الكشف عما تمثله الصورة وما تعنيه، وتتطلب من الناقد جهداً للتأمل في قراءة الصورة. وتقود هذه النظرية إلى نظرية الدلالة والتي يأتي الحديث عنها فيما يلي.
نظرية الدلالة أو النظرية السيموطيقية (Simiotics Approach): وهي علم يقوم على دراسة الإشارات (Signes) ذات المعنى الدلالي، والنظام الذي يجعل من هذه الإشارات وسيلة للاتصال بين البشر سواء عن طريق الرسوم البصرية، أو الإيماءات أو الألفاظ المكتوبة أو المنطوقة (في الأدب خصوصاً). (Gill 1999, P.111) وتوفر هذه النظرية طريقة لتحليل العمل الفني لتحقيق الفهم للمضامين الاتصالية في العمل الفني. أحـد العلمـاء الـذين درسـوا السيمـوطيقيـة هـو ميشيـل فـوكالـت Michel Foucalt (1920-1984) فقـد درس القـوى الفاعلة في المجتمع وركز على الإطار اللغوي الذي يتم من خلاله التعبير عن المدركات المختلفة. وقد طبق هذا الإطار من خلال نقده لعمل الفنان ما جريت هذا ليس غليون (This is Not a Pipe) (عند Gill 1999, P.112). وقد عرف مجموعة من المصطلحات مثل مفهوم الدلالة (The Sign): وهي التي تتكون من الدال (The signified) والمدلول (The signifier)، ولها أوجه اختلاف وتشابه مع مفاهيم أخرى مثل الإشارة والعلامة والأيقونة والرمز والمجاز. ويعرف الدال بأنه يعبر عن مفهوم الشيء المراد نقده وتمثله الصورة العقلية الخاصة به. أما المدلول فيمثل جوهر المادة مثل الصور والأصوات والأشكال.
رائد آخر من رواد نظرية الدلالة السيموطيقية هو جاك داريدا Jacques Derrida الذي قدم نقده لبعض الأعمال الفنية في كتابه The Truth In Painting، من خلال نظرة فلسفية عميقة خاصة (Derrida 1987). كما حاول سليم (1997) توضيح نظرية الدلالة من خلال تقسيمها إلى مستويات تدل عليها أيقونية الصور المرسومة في اللوحة وهذه المستويات هي:
1- الدلالة على الماضي: حيث يدرس الناقد اللوحة من منظور تاريخي أو أسطوري أو تراثي شعبي، تدل عليه العلامات السيموطيقية والصور الأيقونية التي تكرس في اللوحة لتعكس دلالات الماضي.
2- الدلالة على الحاضر: وفيه يدرس الناقد الدلالات التصويرية التي تتطابق مع الحاضر، مثل الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الفكري أو السلوكي.
3- الدلالة على المستقبل: وهنا يقوم الناقد بدراسة الأيقونة التصويرية أياً كانت، محاولاً استنتاج إشارات الفنان التي تتنبأ بما سيحدث في المستقبل، وليتحدث عن الخبرة الجديدة في مجال التلقي (وتنعكس هذه المحاولات بوضوح في مدارس فنية مثل السيريالية والمستقبلية والأوتوماتيزمية).
4- الدلالة الرمزية: وفي هذا المجال يجتهد الناقد في تقصي معنى الرموز،السيموطيقية والأيقونية، في العمل الفني لتوضيح ما هو مبهم (أو مضمر) وغير واضح، لأن الرمز عادة ما يكون بعيد عن عالم محاكاة الطبيعة، ويظهر من خلال الصور في اللون والخط والمساحة... وغيرها.
5- إلغاء البعد الدلالي: يقوم الناقد من خلال هذا المستوى بالبحث عن قيمة الرمز الذي يحاول الفنان أن يلغي معناه الدلالي، وهدف الفنان من ذلك. إن إلغاء البعد الدلالي من الرموز في العمل الفني لا يعني خلو تلك العلامات والرموز من قيمتها الذاتية بل يعني إعطاءها قيمة جديدة. وتتمثل هذه الفكرة في مدرسة فن الأرض التي تقوم على فكرة عزل بعض المعالم عن معانيها الرمزية في المجتمع وتغطيتها لفترة من الزمن لإحلال مدلول جديد لها غير الذي كانت عليه.
النظرية البنيوية (Structuralism Approach): ظهرت هذه النظرية بعد الحرب العالمية الثانية في فرنسا، وكانت متأثرة بالنظرية السيموطيقية في اللغة. إن مفهوم النظرية البنيوية يقوم في الأساس على اكتشاف المعايير الرمزية للظواهر المختلفة، وإظهار النظام الخفي فيها. وعندما تطور هذا المفهوم فيما بعد أصبح يبحث في فلسفته عن الحقيقة المطلقة في طبيعة الأشياء، مع الإيمان بأن الطبيعة الإنسانية ثابتة غير قابلة للتغير. (Gill 1999, P.110)
ولقد رفضت النظرية البنيوية استقلالية الموضوع في الفن وأكدت على أهمية الدلالات التي تربط العمل الفني بحضارة المجتمع وتاريخه. وكانت تبحث عن تفسيرات تقوم على دراسة بنية العمل الفني الكلية وتقسيمها إلى أجزاء أو عناصر يتم اختبار علاقاتها ببعضها البعض ليقدم الناقد تلك التفسيرات من خلال مضامينها الاجتماعية والتاريخية والانفعالية، ومن خلال المعاني الرمزية في تلك العناصر. وكذلك الحديث عن البنائية العامة للعمل الفني وارتباطاتهاالثقافية بالمجتمع أو السياسة أو التراث... أو غير ذلك. (Gill 1999, P111)
النظرية الأدائية (Instrumentalism Approach): وتعتبر هذه النظرية الفن كأداة (Instrument) تؤدي وظيفة في المجتمع من النواحي الدينية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية. وأن النقد القائم على هذه النظرية يمكن أن يستخدم كسلاح ويشجع على أن يكون للفن دور في تمجيد الزعماء، وفي التأثير على الحركات الفكرية والثقافية والثورية الوطنية وفي محاربة الفساد وفي تجسيد العواقب للممارسات الضارة بالأفراد والمجتمعات والدفاع عن الفضيلة والترويج للأفكار بمختلف توجهاتها. (Gill 1999, P.113) وهنا لابد من أن يكون لهذا النوع من النقد دور في التصدي للرذيلة والأفكار المخالفة لقيم المجتمع. وعليه فإن أي مجتمع غيور على قيمـه سـوف يلجـأ إلى هـذه النظـرية في النقـد للتصـدي لأي هجـوم فكري عن طريق الفن.
النظرية المفتوحة (Open Minde Approach): تقوم هذه النظرية على فكرة عدم وجود تعريف محدد للفن. ويعتقد موريس ويتز (Moris witz) صاحب هذه النظرية أن أي محاولة لتعريف الفن هي محاولة فاشلة... ولن تكون كافية وشاملة لماهية الفن الشاملة والواسعة. ويعتقد ويتز أن الفن من خلال تاريخه قد علمنا أن مدارسة واتجاهاته قد بنيت على بعضها البعض مع شيء من التغيير، وأنها كانت أحياناً تمثل ثورة على الطرز والمحتوى والقيم الفنية، وبالتالي فلن يتمكن أي منظر من تحديد تعريف يستوعب كل التغيرات الحاصلة في الفن والوصول إلى تعريف شامل له. وليس من المستحب أن يقوم المنظرون والنقاد بتحديد قيم وأهداف مسبقة للفن مما يحد من الإبداع، وحيث أن الإبداع يقتضي الخروج عن المألوف، فإنه لا يجب تحديد أو تعريف الفن. وأن نقد الفن أو الحكم عليه لا يجب أن يكون من خلال المقومات التي يجب أن توجد أو لاتوجد في العمل الفني، بل من خلال التعامل مع الفن كفكرة مفتـوحـة ليس لها إطار محـدد وليس هنـاك ما يحـد من الحـرية لما يجب ومـا لا يجب أن يعمله الفنان. (Lankford 1992, P.9)
إن تعدد القراءات الفنية واختلافها لا ينفيان أن ظاهرة الفن ظاهرة إنسانية تؤدي حتى في أشكال المحاكاة الواقعية، إلى معرفة أوضح لعالم الإنسان الظاهري والداخلي على السواء، وهو العالم الذي ينتمي إليه ويتواصل بواسطته مع الاخرين. يقول أمهز (1997) "فكل قراءة للعمل الفني تبقى مفتوحة، ولا تتوقف عند تفسير ما يقدمه من دلالات تبعاً لمختلف المناهج والنظريات، وكل تفسير للعمل الفني يبقى نسبياً لارتباطه بمفاهيم ومثاليات محددة، ولأن العمل الفني يبقى شيء آخر غير (الخطاب القابل للتفسير)." (ص13) وحتى يتمكن الناقد من توضيح الفن من خلال هذا المنظور فقد نبَّه ويتز إلى قضية "التشابه العائلي" Family Resemblances في الأعمال الفنية من نفس النوع فعندما يكون هناك إجماع على أن عمل مثل (الموناليزا) هو عمل فني، فإن كل الأعمال التي تشابه هذا العمل يمكن أن نطلق عليها فناً، ويبقى هذا المفهوم من المرونة بحيث يمكن اعتباره من أفضل الطرق في توضيح مفهوم، وتذوق الفن. (Lankford 1992, P.10)